الأحد، 23 يناير 2011



صعده من روائع الأدب العالمي
  بقلم /محمد علي عناش
ِ
 الحُرُوبُ بكل أشكالها وألوانها عدميةٌ لا معنى لها سوى تأكيد حالة التوخي والقلق المسيطرة على ذوات جميع الأطراف المتحاربة، حالة خوف وبدائية لا زالت كامنةً ومتجذرة في روح الإنسان المحارب أو المتمرد العدواني، منذ الطفولة البشرية حتى يومنا هذا، تجعل من القتل ممارسة ممتعة ولذيذة، ومن الإستئصال بطولة وشرفاً، وتتم شرعنة هذه اللذة وهذا شرف بطرق وطقوس وفلسفات شتى، شعراً ومسرحاً ومقامات حتى بالصلاة والدعاء، وبالتعبير الجسدي وقرع الطبول التي تمثل عبر التأريخ كرمزية لوعي الحرب والغلبة، وتهيئة المحارب نفسياً ووجدانياً وحسدياً لممارسة العُنف والقتل اللذيذ والإستئصال المشرف.
كم أُزهقت أرواح، وأبيدت مجتمعات، ودمرت مدن وحواضر، تحت قرع الطبول، أو في لحظة نشوة من كأس معتق أو تحت راية جهاد موهوم، وأفظعها الإنتصار لنيتشه وفلسفته بخصوص الأرقى الأرقى.
قديماً قرر الأسكندر المقدوني في لحظات من جُنون العظمة »أن يوحد العالم أو يقيم الأمبراطورية العالمية على أجساد وجماجم جنونه العظيم، لكنه لم يكن يدرك أن نهايته ستكون بطعنة غادرة من أقرب المقربين إليه، فكانت آخر جملة ينطقها وهو في حالة إندهاش شديد »أنت يا أنطينوس« في موقف يجسد ذروة وعي الحيلة والتربص والقتل منذ إعلائه كقيمة في الوعي الروماني، ونيرون جلس مزهواً يحتسي الجعة متلذذاً ومنتشياً بمنظر روما وهي تدمر وتحترق، مشهَـدٌ عبثي وحالة كره للحياة بخلفية بربرية، أما زياد بن أبيه ومعه عبدالله بن سعد بن أبي وقاص فقد مارسا هذه المتعة بطريقة عربية صرفة، القتل مع التهليل بـ»الله أكبر«، حيث لم يكتفيا بقتل الحسين عليه السلام وإبادة سبعين رجلاً وشاباً وطفلاً من أقربائه وشيعته، بل واجتزا أيضاً رأسه ورأس شقيقه العباس عليهم السلام، وحملاهما على أسنة الرماح من كربلاء حتى بغداد وقصر خليفة المسلمين يزيد بن معاوية الذي يُعتبَـرُ عملياً أول ملحد في التأريخ الإسلامي.
كم هو التأريخ بهذا الشكل غرائبي وفجائعي، فإذا قلبنا صفحات تأريخ الشعوب، وبحثنا في تراثها وموروثها وطقوسها وفلسفاتها بل وذاكرتها الشعبية، نجد حضوراً قوياً لنشوة الحرب ولذة القتل، وكأنه المحرك الرئيسي للتأريخ، أو كما قال الروائي والفيلسوف البيركامي: »يعتبر تأريخ الشعوب بوجه ما مجموعة تمرداتهم المتتالية«، وأن »الذهن المشبع بفكرة العبث يقر دون شك بالقتل قضاءً وقدراً«.
كثيرٌ من الشعوب والأوروبية بالذات تجاوزت هذه الحالة من القلق المدمر والبداوة الشرهة للقتل عندما آمنت بالتعايش والشراكة وخيار العلم والتنمية والديمقراطية، وأعلت من قيم الحرية والمدنية وقيمت تأريخها وثقافتها.. فلم يعد الإسكندر »يولوس قيصر« مثار فخر واعتزاز تأريخي، بل أضحوكة ومثار سخرية، وهتلر لم يعد بطلاً قومياً للألمان، بل نازي ومن مساوئ التأريخ، بل ووصل الأمر لدى بعض هذه الشعوب أن قدمت إعتذارَها للشعوب التي إحتلتها واستعمرتها..
فقط نحن الشرق الإستبدادي.. شرق الإنقلابات والصراعات والإبادات والمجاعات والإرهاب لا زالت تسكننا روح العنف، ويتحكم فينا وعي الحرب، وهاجس الخوف، لذا نعيش في حالة تأهب على المستوى الرسمي والشعبي، رسمياً تنفق الأنظمة »60٪« من موازنات بلدانها في مجال الأمن والدفاع والسلاح لمواجهة الشعوب بصفتهم مخربين وطامحين، وشعوب مهووسة بشراء قطع السلاح وتخزينها لمواجهة مجهول من الأعداء والمتربصين حسب تصنيف الوعي الصراعي والحربي لدى الأفراد.
محمد سياد بري أمسَكَ بالسلطة في الصومال بانقلاب على منقلبين، وكشرقي لا يؤمن بالتعايش والشراكة أنشأ نظاماً عسكرياً ودولة بوليسية وحكم الشعب بالحديد والنار والتصفيات، وفي النهاية هرب مطروداً ومهزوماً تاركاً وراءه أطلالَ دولة، لكن رحل الديكتاتور وحضر الفرقاء لا ليتعايشوا، بل ليتحاربوا ويمارسوا هوسَ الإستئصال ولا يزال، وفي هذه الحالة ليس بوسعنا أن نفاضل بين دولة الديكتاتور، ولا دولة الفرقاء والمتناحرين، فالجميعُ قتلة، وهو الشيءُ نفسُه ما يحدُثُ في العراق وأفغانستان وباكستان من قتل رخيص للإنسانية.
أما ما قامت به دولة إسرائيل الدموية من حرب إبادة إستئصالية بحق أبناء غزة في العام الماضي فيستدعي الضمير العالمي أن يتحركَ لمحاكمة مجرمي هذه الحرب، ليس من أجل حماس التي قد نختلفُ معها كثيراً، بل من أجل طفولة ذُبحت بوحشية وبربرية لم نشهد مثلها في التأريخ، ومن أجل ترسيخ شعور وثقة جديدة بعدالة إنسانية يجب أن تتحققََ في هذه القضية تؤسسُ لسلام حقيقي في المنطقة، بل وفي العالم أجمع تكون نقطة بداية لحوار إنساني عادل..
ويقول الروائي العالمي »البيركامي« في كتابه »الإنسان المتمرد« إن التمرد لا ينشأ فقط بالضرورة لدى المضطهد، بل قد ينشأ أيضاً لدى مشاهدة الإضطهاد الذي يتعرض له شخص آخر«.
إن تأسيسَ سلام عالمي يتطلبُ الإعزاء من ثقافة السلام عبر مستويات متعددة ومنهجية، أن نجعل من »غاندي« رمزاً عالمياً للسلم واللاعنف، واستحضار مبادئه وقيمه في ثقافات كـُــلّ الشعوب، وأن ننصب له تذكاراً في كـُــلّ مدينة وعاصمة يتطلب إجراء إدانات واسعة للحروب والعنف والتطرف، إسرائيل وبربريتها، أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة، ثقافة التطرف والإرهاب التي تجسده بصورة عدمية حركة طالبان، إدانة المناهج التعليمية المشبعة بثقافة التكفير والإقصاء التي تمثله الوهابية، وتنشره كثقافة صراعية منتجة للتطرف بطرق منهجية، عابرة للقارات.. إدانة الأنظمة المستبدة وإرغامها على الإصلاحات الشاملة، واحترام الحقوق والحريات، وقبل كـُــلّ ذلك ضرورة قيام الدول التي إحتلت واستعمرت شعوباً أخرى بتقديم إعتذاراتها لهذه الشعوب، ومد يد العون لتنميتها وَمساعدتها على ترسيخ الممارسات الديمقراطية كأداة للتغيير السلمي، وإشاعة ثقافة السلم والمدنية..
في الأخير لا بد أن نشيرَ إلى أن الحروبَ وأعمالَ العنف تترك آثاراً وجراحات لن تنمحيَ أو تجف بسرعة؛ لأن وقعَها عميقٌ بكل المقاييس، وستظل محفورة في ذاكرة الأجيال يُعبَّــــرُ عنها بطرق شتى، تتوحد في إدانة الحرب والعنف غير أن أبلغ إدانة للعنف والدمار والحلول الدموية هو ما يعبر عنه الكثير من الشعراء والروائيين والتشكيليين من الذين عاشوا أجواء هكذا ظروف، فهم الأقدر على ترجمة المأساة التي تحدثها ثقافة التقاتل والعبث والعدمية باستنتاجات أدبية ذات قيمة عالمية وتأريخية، تحمل في مضمونها موقفاً إنسانياً نبيلاً مناهضاً للحروب، خاصة عندما تغيب المواقف السياسية، وتصير الأحزاب جزءاً لا يتجزأ في إنتاج هكذا ظروف وتداعيات، كما تحمل ثراءً وعمقاً إنسانياً، ودعوة كونية للتسامح والحوار وخيار المدنية، وإدانات عميقة للحروب والإستبداد والتطرف التي تخلف وراءها دائماً دماراً ومشردين وأيتاماً وأرامل ونازحين ومعاقين.
رواية »الحديقة الصخرية« وكذا رواية »الإخوة.. الأعداء« للروائي اليوناني الشهير »كازنتزاكيس« من الروايات العالمية الشهيرة التي حازت على كثير من الجوائز العالمية، فهذا الروائي عاصَرَ الحربين العالمية الأولى والثانية وكذا الحرب الأهلية اليونانية، فجاءت رواياته متأثرةً بهذه الأجواء عميقة التعبير عن فظاعة الحروب وقذارتها وعدم شرعيتها، تدين بشكل مؤثر كـُــلّ المحاربين والعدميين أعداء الحياة، كما أدان الكنسية التي أقحمت أقحمت نفسها في الحروب والنزاعات في روايته »مسيح يصلب« عد كزنتزاكيس من كبار دعاة السلام وكانت تربطه علاقة صداقة وحميمية مع غاندي داعية اللاعنف.
لا يوجد بلد في العالم عرف وجرّب خلال أربعين سنة كـُــلّ الأنظمة السياسية التي يمكن تخيلها كأفغانستان أنظمة لا تخطر على البال، دفعت بوطني إلى شفير الهاوية، هذا ما قاله في إحدى مقابلته الصحفية الروائي الأفغانستاني »عتيق رحيمي« المتواجد حالياً في فرنسا فرواياته تحمل وبمدلول خاص إدانة صارخة للحرب والعُنف والتطرف، هذه الثلاثية التي دمرت أفغانستان، ولذا يرفض وبشدة أن يقال عنها قضاءً وقدراً، أما الجانب التراجيدي الأعمق في معظم رواياته فتحمل رثاءً عميقاً جداً لوطنه الذي يصفه بالمجنون، واشتياقه اللامتناهي لكابول السبعينيات التي كانت قد قطعت شوطاً لا بأس به في اتجاه المدنية والتنمية والثقافة واحترام الحريات قبل أن يتأسلم فيها كـُــلّ شيء بوعي الدبابة والكلاشينكوف، وقبل أن تنصب فيها مشانق حكمتيار وطالبان وقبل أن يدمنُ الأفغان اللحى وقطع الرؤوس والمخدرات في آن واحد، يتجلى هذا الحنين والفقدان والرثاء في رواية »أرض ورماد« ورواية »حجر الصبر« التي حازت على كثير من الجوائز العالمية.
حروبُ صعدة فيها من المأساوية والتراجيدية والعدمية وطغيان هوية القتل ما يستحق أن يعبر عنه كمشهد من مشاهد العبث الإنساني في هذا المكان من العالم، لكن هل سيتحفنا العقد القادم أو الذي يليه برواية جادة، أكيد فأجواء وظروف حروب صعدة ومشاهدها المأساوية من النوع التي تفتح الذهن والمدارك وتنمي الشعور الإنساني والآدمي، وتحفز على الإبداع، وأنا من هنا أبشر برواية أو أكثر، ربما يكون عنوانها »صعدة« أو »بُستان يحترق« يكتبها أحد الصعداويين ممن عايشوا هذه الحروب في طفولتهم وستكون من روائع الأدب العالمي الذي يراكم ثقافة السلم وينمي الإنسانية الحقة التي نزفت كثيراً في سهول ووديان وجبال صعدة، دونما ضمير يتحرك، أو موقف نبيل يخلده الوجدان الصعداوي.
أخيراً.. لا عزاءَ للمشترك الذي يصمُتُ متى يشاءُ، ويتكلمُ متى يشاءُ؛ لأن التأريخَ سيتكلمُ ويتكلمُ بلغة أرقى وأسمى من لـُـغة السياسة المخجلة جداً..
< محمد علي علي عناش


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق