الأربعاء، 18 فبراير 2015

قصر سعدان بمدينة حجة

 قصر سعدان بمدينة حجة

قلعة القاهرة

  قلعة القاهرة بمدينة حجة ويطل من الخلفية من الجنوب  جبل مسور المنيع بعد المطر

الثلاثاء، 17 فبراير 2015

ياغصن لابس قميص - محمد الحارثي - ( أصوات يمانية )

الغيرة

الغيرة
            .................عادل شلي

جاءت امرأة تشكوا الى حكيم  شدة  محبتها لزوجها وغيرتها عليه.
فقال لها الحكيم :
ـ  اذا منحك الله كنزاً  ثميناً لا يقدر بثمن ـ لفرادة جواهره وندرتها ـ فماذا انت صانعة به ..؟
 المرأة :
ـ لابد أن احافظ عليه .
 الحكيم :
ـ وكذلك الغيرة  تدفع صاحبها ليوكل مهمة الحفاظ على كنزه الثمين الى من لا يجيد الحفاظ عليه .
اسمعت بقصة الام الذي ذهبت تبحث عن زوجها واوكلت مهمة حماية ابنائها الصغار لاحد شباب الحي الذي تقطنه  وهي لا تعلم أنه مصاب بلوثة من الجنون الا عندما  وصلت الى نصف الطريق الذي الى الحقل الذي يعمل فيه زوجها فلقيت احدى قريباتها التي بادرتها عن السؤال عن صغارها فأخبرتها انها تركتهم لدى خالد ابن الجيران فتفاجئت قريبتها واخبرها انه  لايعقل ان تتركهم لدى شاب مجنون فتبدل امن الام الى  خوف على اولادها ، وتحول من اوكلت اليه  مهمة حمايتهم الى مصدر للخوف والفزع وعربدت المخاوف لديها .... وخطوة تدفعها للأمام وخطوة للخلف حتى يوصلها الشك الى المرحلة التي تفقد الثقة في   نفسها ، فلاهي التي حمت اولادها ولاهي التي حافظت زوجها وعقلها .
هذه هي الغيرة هاوية من الشك والحيرة التي لا قرار لها والعجز المدمر اردف الحكيم ونظر الى المرأة وقال
ـ اسمعت بقصة الرجل الذي ذهب ليتداوى لمرض بعينيه عند شيخ اعمى .
المرأة  :
ـ لا
الحكيم  :
ـ يحكى ان حطاباً اصيب بشظية وهو يقطع اوتاد الحطب  فأصابت  جفن عينه اليسرى فالمته واغرورقت عينه بالدمع و الدم الذي سال من الجفن  فحجب العين  عن الرؤية فأظلمت امامه الدنيا فألقى بفأسه ونزل من الجبل الذي يحتطب منه ليبحث عن من يداوي وجع عينه .
فلقي اول شاب صادفه وكان احمق وكثير المزاح   وهو لا يدري.
 فسئله الحطاب :
ـ عن طبيب يستطيع مداواة عينه التي اصيبت بالعمى فاخبره الاحمق بأن هناك بأطراف القرية حكيم لا يستعصي عليه مداواة أي داء .
فاتجه الرجل من فوره الى اطراف القرية التي اشار بها عليه ، وما ان وصل الى الطريق الذي يفضي الى البيت الوحيد المهدم بأطراف القرية حتى قابل رجلاً فسئله الحطاب :
ـ اين اجد الطبيب الذي لا يستعصي عليه داء ..؟
فستغرب الرجل وقال :
ـ لقد مات منذ سنين وخلف ابناً مصاب بالعمى ومهووس بعلاج المبصرين ولم يشفى على يديه احد .
فقال الحطاب ولكن شاباً اخبرني بأنه لا يستعصي عليه داء .
فرد الرجل :
ـ ربما هو شاب احمق  لا يقدر عواقب الامور ، ولو كانت تلك صفة ابن طبيبنا لما عجز عن مداواة عينيه وابتلي بالعمى وهو يقدر على مداواة كل داء .
ـ فحتار الرجل ايهما يصدق ...!! الرجل الذي يحدثه بصوت الخبير الواثق مما يقول  وينصرف عن الطبيب المزعوم  وتهن عليه عينه التي تؤلمه ، او يصدق الشاب  الاحمق خوفاً على فقدان عينه .
 وهكذا هي الغيرة شك وحيرة  وعجز وفقدان للذات والاخر اجارنا الله واياك منها .
ـ ونظرت اليه المرأة :
ـ وما دوائها ..؟
فرد الحكيم :
ـ حسن التوكل على الله والثقة فيه ، والحفاظ على النعمة بالشكر وعقلها بعقال الرشد ، والبعد عن السفه وسوء الظن .
                            ..............................
 ضـوء القـمـر 
للفنان البولندي إيغـور ميتـوراج، 1986 

لوحات عالمية


  1.  لوحات عالمية
    الأصدقاء الثلاثة 
    للفنّان الصيني دون هونـغ واي، 1989 

    لأوّل وهلة، قد يظنّ الناظر إلى هذه الصورة أنها لوحة مرسومة بالألوان المائية. لكنّها في الواقع صورة فوتوغرافية. وما يجعلها فريدة من نوعها هو الأسلوب التقني المبتكر الذي اتبعه المصوّر في معالجتها. 
    هذه الصورة وغيرها من صور دون هونغ واي منتشرة على نطاق واسع في الكثير من المواقع على الانترنت لدرجة انه يمكن اعتبارها ظاهرة. ومن الواضح أن المصوّر يحاكي في لقطاته الأسلوب التقليدي الصيني في رسم اللوحات التي تصوّر مناظر طبيعية. كما أنه وظّف فيها بعض الموتيفات التي تظهر عادة في الرسم الكلاسيكي الصيني مثل طيور الماء وأشجار الصنوبر والجسور والأنهار والبحيرات والجبال التي يغطّيها الضباب. 
    من المعروف أن الرسم الكلاسيكي الصيني يحتفي بالطبيعة وعناصرها إلى درجة التقديس. لذا نرى تلك الرسومات مليئة بصور القوارب والجبال والأنهار والغرانيق والنوارس والنمور والجياد البرّية والنسور وأزهار اللوتس وأشجار الخوخ والصنوبر. 
    وما يجعل صور واي خاصّة ومتفرّدة هو التكنيك الذي يوظّفه في إخراجها. فهو يستخدم أكثر من صورة سالبة "نيغاتيف" ويعمل على كلّ واحدة على حدة. وفي النهاية يقوم بدمجها معا بطريقة تنتج صورة مونوكروميّة "أي ذات لون واحد"، لكنها جميلة ومعبّرة وتستثير الذكريات والمشاعر. 
    دون واي سبق له وأن درس على يد المصوّر الصيني الأشهر شِن صن لونغ الذي توفّي في تسعينات القرن الماضي عن عمر ناهز المائة عام. تلك التجربة أفادته كثيرا وفتحت أمامه آفاقا جديدة في معرفة أسرار وخبايا الإبداع في التصوير الضوئي. 
    في هذه الصورة يلتقط المصوّر مشهدا هادئا من الريف الصيني هو عبارة عن بحيرة يقوم على احد أطرافها جسر خشبي ويسبح في مياهها ثلاثة من طيور الماء تبدو منشغلة في التقاط الأسماك الصغيرة. 
    منظر التلال التي يغطّيها الضباب في الخلفية، بالإضافة إلى خلوّ هذه الصورة من أيّ حضور للإنسان، يذكّرنا مرّة أخرى باللوحات الصينية القديمة. وبعض تلك اللوحات هي عبارة عن مناظر بانورامية لطبيعة تظهر فيها سهول فسيحة وبحيرات واسعة وغيوم كثيفة وجبال ضبابية تحجب وجود الإنسان أو تختزله إلى مجرّد نقطة شبحية وضائعة وسط الحضور المهيب والطاغي للطبيعة. 
    في هذه الصورة تمكّن الفنّان من التقاط منظر شاعري عن عالم قائم بذاته، لكن بأقلّ قدر من التفاصيل. والمنظر يوصل إحساسا انطباعيا بالجوّ، كما أنه يوحي بمرور الزمن دون أن يكون عن زمن محدّد بالضرورة. 
    ولد دونغ هونغ واي في غوانتزو بالصين عام 1929م. كان الابن الأصغر لعائلة فقيرة تضمّ خمسة وعشرين طفلا. وبعد موت والديه، سافر ليعمل في سايغون بـ فيتنام. هناك عمل في احد استديوهات التصوير وتعلّم التقنيات الأساسية للتصوير الفوتوغرافي. ثم درس الفنّ في جامعة فيتنام وأصبح بعد تخرّجه مدرسّا للفنّ فيها. 
    وأثناء إقامته في سايغون، عمل فترة مع المصوّر الفيتنامي المشهور نك اوت الذي نال جائزة البوليتزر عام 1972 عن لقطته الايقونية التي صوّر فيها أطفالا يهربون من جحيم قنابل النابالم التي استهدفت إحدى القرى الفيتنامية. 
    في ما بعد، اضطرّ دون واي إلى مغادرة فيتنام مع ظهور بوادر النزاع الذي نشب وقتها بين كلّ من فيتنام والصين. كانت فيتنام قد اتخذت إجراءات مشدّدة للتضييق على الجالية الصينية التي تعيش في البلاد. وقد وجد دون واي نفسه واحدا من ملايين الصينيين الذين أصبحوا يُعرفون بسكّان القوارب ممّن اضطرّوا للهرب من فيتنام في أواخر سبعينات القرن الماضي. 
    فنّانو الطبيعة الصينيون عُرف عنهم منذ القدم تقديسهم للطبيعة كجزء من التراث والحضارة الصينية. وقد اجتهد الفنانون الصينيون دائما على أن لا تكون أعمالهم مجرّد تسجيل للطبيعة، بل سعوا من خلال تلك الأعمال لأن يتوحّدوا معها ويسبروا أغوارها. 
    كانت الطاوية مثلا تعتقد أن على الإنسان أن يفهم الطبيعة ويصادقها، لا أن يغزوها ويدنّسها ويبدّد مواردها. وكونفوشيوس كان يرى أن تحقيق التناغم مع العالم مشروط بأن يتعايش الإنسان مع الطبيعة بسلام وانسجام وأن يفهمها وأن يبحث عن المعرفة من خلالها. ومما يُؤثر عنه أيضا قوله أن الإنسان الحكيم يجد متعته في الماء والرجل التقي يجدها في الجبال. 
    كان الفنّان الصيني القديم يلاحظ سلوك الحيوانات والطيور ويتفاعل مع الأزهار والنباتات ويراقب تغيّر الطبيعة مع تغيّر الفصول. ولم يكن يرسم إلا بعد أن يكون قد تماهى مع كلّ هذه العناصر واستوعبها جيّدا. لذا ليس من المستغرب أن تتضمّن الرسوم الكلاسيكية الصينية بعدا روحيا بالإضافة إلى خصائصها الشعرية والزخرفية. 
    في هذه الصورة، كما في بقيّة صوره الأخرى، لم ينس دونغ واي أن يضمّنها كتابة بالأحرف الصينية التي تتميّز بجمالياتها الزخرفية. وفي هذا مضاهاة مع احد التقاليد الصينية القديمة في مزج ثلاثة أشكال مختلفة من الفنّ، هي الشعر والخط والرسم، على نفس رقعة الورق. وكان هناك اعتقاد بأن هذا المزج يسمح للفنان أن يعبّر عن نفسه بطريقة أكثر وضوحا وعمقا. 
    غادر دون واي فيتنام على متن قارب صغير. وانتهى به المطاف في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة التي عاش فيها السنوات العشر الأخيرة من حياته. 
    وفي أمريكا بدأ اسمه يذيع ويشتهر. وسرعان ما اعتُرف بموهبته ونالت صوره عددا من الجوائز العالمية. كما وجدت طريقها إلى بعض أشهر الغاليريهات والمتاحف والمجموعات الفنّية الخاصّة داخل الولايات المتحدة وخارجها. 
    دون واي استطاع من خلال صوره الرومانسية الداكنة والأحادية الألوان أن يحتفظ لنفسه بمكانة بارزة في مجتمع التصوير الفوتوغرافي العالمي. وقد ظلّ محافظا على روح الفنّ الصيني في أعماله حتى وفاته عام 2004 في سان فرانسيسكو عن عمر ناهز الرابعة والسبعين بعد جراحة فاشلة في القلب. 
    وبعد وفاته، تمّ إحراق رفاته ولم تُقم له جنازة تذكارية بناءً على طلبه. 

    منظر لساحة الجمهورية 
    للفنان الفرنسي إدوار ليـون كورتيـز، 1960 


    لا يوجد رسّام أحبّ مدينة بمثل ما أحبّ إدوار كورتيز مدينته باريس. 
    وقد بلغ من افتتانه وشغفه الكبير بهذه المدينة أن كرّس لها جميع لوحاته تقريبا وعكف على تصويرها على امتداد أكثر من خمسين عاما. 
    ومناظره التي رسمها لباريس وشوارعها وساحاتها ومعالمها المختلفة ما تزال من أشهر وأروع الصور التي تعكس بهاء وفخامة هذه المدينة. 
    كما يمكن اعتبار لوحاته سجلا يوثّق جانبا من الإرث التاريخي والحضاري لباريس خلال النصف الأول من القرن العشرين. 
    والذي يتأمّل لوحات كورتيز التي تبدو فيها الشوارع والبنايات والساحات غارقة في الأضواء الملوّنة والمشعّة، لا بدّ وأن يستذكر مغزى تسمية هذه المدينة بعاصمة النور. 
    فقد كانت باريس في ذلك الوقت عاصمة الفنّ الأولى في العالم. وكان يؤمّها الفنّانون والمبدعون من مختلف الأرجاء والأماكن، إمّا للدراسة أو سعيا للعمل أو التماسا للشهرة. 
    كما كانت المدينة مقصدا للكثير من السياح وأصحاب الأعمال وجامعي التحف الفنية، وحاضنة للعديد من المدارس والاتجاهات والتيّارات الحديثة في الرسم والموسيقى والمسرح والأدب. 
    في هذه اللوحة يرسم كورتيز بأسلوبه الانطباعي المتفرّد والخاص ساحة الجمهورية؛ أحد أشهر معالم باريس. 
    والمنظر عبارة عن كرنفال صاخب من الألوان والأضواء المتوهّجة والمنعكسة على الساحة والمباني المحيطة بها.
    وفيها نرى رجالا ونساءً يمشون على الأرصفة، وعربة تجرّها جياد بيضاء، وعربة أخرى لبيع الزهور، ومقاهي وأكشاكا. 
    وإلى يمين اللوحة من الأمام تظهر زوجة الفنان وابنته اللتان كان يحرص على رسمهما في لوحاته. 
    ساحة الجمهورية كانت وما تزال أكثر الأماكن في باريس ازدحاما بالحركة وبالناس. ويعود تاريخ إنشائها إلى بدايات اندلاع الثورة الفرنسية. 
    ومن أهم المعالم التي تميّزها تمثال الجمهورية الذي يظهر في خلفية اللوحة والذي شيّده النحّات جول دالو في العام 1883م. 
    من الواضح أن كورتيز رسم هذا المنظر في إحدى ليالي الشتاء الباردة والممطرة. 
    وتتبدّى مهارته بشكل خاص في تمثيل الساحة المبللة بالمطر وفي استخدامه المبهر للألوان اللامعة والمتلألئة. 
    وعندما نتمعّن في اللوحة لا يمكن إلا أن تلفتنا براعة الفنان الهائلة في تحويل كتل الطلاء الثقيلة إلى وهج انطباعي أخّاذ تنبثق منه ألوان ناعمة ومتناغمة تتشكّل منها ملامح الوجوه وتفاصيل الملابس والنوافذ والمصابيح وغيرها من الأشياء والتفاصيل. 
    وكثيرا ما تتكرّر في مشاهده صور لخيول تجرّ العربات وأشخاص يمشون ويقرؤون الصحف ومحلات تبيع الزهور ونوافذ تشعّ منها الأنوار الساطعة والمتألقة. 
    في لوحاته الأخرى يصوّر كورتيز، بنفس الأسلوب الشاعري والروح المفعمة بالحياة، مناظر لمعالم باريس الأخرى التي لا تقلّ شهرة، مثل برج ايفل وكنيسة ماديلين وساحة الكونكورد والحيّ اللاتيني وقوس النصر وساحة نوتردام ودار الأوبرا والشانزيليزيه وغيرها. 
    وبالإضافة إلى الشكل الخارجي، فإنّ لكلّ مكان من هذه الأمكنة شخصية وحضورا داخليا محسوسا ومتجسّدا في اللوحة. 
    فاهتزاز الألوان وبريقها وتماهيها وذوبانها الغريب يتوالد عنه عناصر حيّة من أصوات وكلمات وإيقاعات وأحاسيس. 
    ويكاد الناظر إلى اللوحة يحسّ برودة الجوّ ويلمس الغيم بيديه ويشمّ رائحة المطر ويسمع وقع خطوات الناس وصدى كلماتهم واختلاج أنفاسهم. 
    لقد عاش كورتيز حياته بأكملها في هذه الأماكن. ومع مرور الوقت، نشأت بينه وبينها أواصر نفسية وروحية حميمة جعلته مندمجا فيها ومتّحدا بها. 
    ولوحاته هي بمعنى ما تجسيد لمشاعره وأحاسيسه الخاصّة وتعبير عن حالاته النفسية والشعورية. 
    وعند الحديث عن كورتيز ومناظره الباريسية الجميلة، لا بدّ وأن نتذكّر مواطنه الفنان انطوان بلانشار Antoine Blanchard الذي اشتهر، هو أيضا، بلوحاته التي تصوّر باريس بما تضمّه من صروح ومعالم وما تحفل به الحياة فيها من مظاهر وأنشطة مختلفة.

    ممـلـكـة الســلام 
    للفنـان الأمريكي ادوارد هيكــس، 1833 

    ادوارد هيكس رسّام وواعظ أمريكي، وشهرته كفنان تعتمد في الأساس على هذه اللوحة. وقد رسم منها حوالي المائة طبعة. 
    هيكس كان شخصا متديّنا بطبيعته، وكان يحبّ الحيوانات والأطفال. لكن باستثناء هذا لا أحد يعرف الكثير عن حياته أو معتقداته. 
    البعض يراه مجرّد فنان كولونيالي والبعض الآخر ينظر إليه باعتباره رساما فولكلوريا ساذجا. كان هيكس يؤمن بالمفاهيم القديمة حول رمزية الحيوان وعلاقته بالشخصية الإنسانية. ومملكة السلام هي آخر لوحة رسمها قبل وفاته. ويعدّها كثير من النقّاد إحدى روائع الفن العالمي. 
    فكرة اللوحة مستوحاة من إحدى آيات الإنجيل التي تتنبّأ بعودة المسيح وبأن يسود السلام الأرض ويعيش البشر والحيوان جنبا إلى جنب في سلام ووئام. 
    واللوحة تترجم بدقّة ما ورد في تلك النبوءة، فالذئب يتعايش مع الحمل والنمر يرقد إلى جوار الطفل والغزال مع الأسد والبقرة مع الدبّ الخ. 
    لكن هيكس اختار أن يضمّن اللوحة حدثا معاصرا، ففي الخلفية إلى اليسار يظهر ويليام بن - مؤسّس ولاية بنسلفينيا وزعيم جماعة الكويكرز المتديّنة التي كان هيكس ينتمي إليها – وهو يوقّع اتفاقية سلام مع الهنود الحمر سكّان أمريكا الأصليين. 
    وقد كان هيكس يعتقد أن تلك الحادثة هي جزء من تأسيس مملكة السلام على الأرض. 
    كان هيكس يؤمن بقوّة النور الذي يشعّ داخل الإنسان وكان يحسّ به ويراه في نفسه وفي الآخرين. 
    كان العالم بالنسبة إليه كتلة من النور، والمخلوقات من بشر وحيوان ممتلئة بهذا النور. 
    وإحدى لوحاته التي أنجزها في أخريات حياته تصوّر حقلا اخضر تعلوه سماء مغمورة بالضياء. 
    كانت رسومات هيكس تعالج موضوعات دينية وتاريخية وحيوانات فيما خصّص البعض الاخر لتصوير حياة المزارعين في ولايته بنسلفينيا.
     التوقيع 
    " إذا كنت ترغب في التحدث معي عرف ما تقول وحدد قولك " فولتير


  2. #32
    صورة عضوية ReX
    ReX 
    ReX غير متصل حالياًعضو مميز جداً
    تاريخ الانضمام
    06/12/2009
    الجنس
    ذكر
    المشاركات
    7,671

    افتراضي

    الأميرة فالانتينا تبكي موت زوجها دوق اورليون 
    للفنان الفرنسي فلوري فرانسـوا ريشـار، 1802 


    يقال أحيانا أن الأعمال الفنية التي تتناول حالة إنسانية أو تتضمّن عنصرا له علاقة بالتاريخ أو الهويّة الوطنية هي التي يُكتب لها البقاء أكثر من غيرها. 
    وهذه اللوحة تشتمل علىّ كل هذه العناصر الثلاثة معا. 
    فهي من ناحية تصوّر حالة إنسانية خاصّة. كما أن لموضوعها علاقة بحدث سياسي وتاريخيّ مهمّ. 
    الأمر الآخر هو أن اللوحة نفسها جميلة وتروق للعين برغم موضوعها الحزين. كما أنها رُسمت بطريقة تنمّ عن براعة الرسّام ومهارته الفنّية العالية. 
    واللوحة تصور الأميرة فالانتينا فيسكونتي وهي تبكي زوجها دوق اورليون الذي قُتل على يد ابن عمه دوق بيرغندي في ذروة صراع الرجلين على السلطة في فرنسا مطلع القرن الخامس عشر. 
    في تلك الفترة كانت فرنسا تعيش أجواء اضطراب وتوتّر سياسي خطير نتيجة الصراع الطاحن على السلطة. فالملك شارل السادس مريض وعلى حافة الجنون نتيجة إصابته بالشيزوفرينيا. والقصر يعجّ بأخبار المؤامرات والدسائس والشائعات بين الخصمين الرئيسيين الطامحين في ملء الفراغ الذي تركه غياب الملك. 
    غير أن اخطر تلك الشائعات هو ما قيل عن وجود علاقة غرامية بين الملكة وزوج فالانتينا الذي هو بنفس الوقت شقيق الملك. وأيضا ما أشيع عن وجود علاقة غامضة بين فالانتينا نفسها والملك المريض. 
    وقد جلبت هذه الأخبار غضب الملكة فامتلأ قلبها غيظا وحنقا على الأميرة، وبلغ حقدها ذروته عندما أمرت بطردها نهائيا من القصر ونفيها عن باريس. 
    هذه اللوحة تكشف عن حالة من حالات الضعف الإنساني وتصوّر الحزن بأجلى صورة. لكنها أيضا تعكس معاني الوفاء والإخلاص والعاطفة الصادقة والقويّة. 
    وقد اختار الرسّام أن يستحضر في هذا العمل بعض العناصر التي تذكّر بالعصور الوسطى مثل الديكور المستوحى من العمارة القوطية والنافذة ذات الزجاج المعشّق والأنيق. ونفس هذه النوعية من الزجاج تظهر أيضا في الجزء الذي يعلو الستارة حيث النوافذ الثلاث الدائرية الشكل والتي يظهر في الوسطى منها رسم لأفعى خضراء، في إشارة إلى شعار عائلة فيسكونتي الايطالية التي تنتسب إليها المرأة. 
    كانت نار العداوة على أشدّها بين زوج الأميرة وخصمه الطامع، هو الآخر، في الحكم. وأجّجت الملكة وأنصارها الصراع بين الرجلين بإصدارها مرسوما تعهد فيه إلى دوق بيرغندي بولاية العهد وبتعيينه وصيّا على أبناء الملك العاجز والموشك على الجنون. 
    غير أن غريمه، أي زوج فالانتينا، لم يستسلم للأمر بل سعى إلى تخريب مهمّة خصمه ونقل النزاع إلى الشارع. 
    وخوفا من نشوب حرب أهلية، تدخل عمّهما لفضّ الخلاف بينهما وانصاعا أخيرا لمشيئته بموافقتهما على وثيقة الصلح التي اقترحها. 
    لكن بعد الاتفاق ببضعة أيام، اغتيل دوق اورليون، أي زوج فالانتينا، على أيدي أشخاص مجهولين فاجئوه في احد شوارع باريس وهو يهمّ بامتطاء حصانه فقاموا ببتر ذراعيه بالسيوف لشلّ حركته ثم تركوه ينزف حتى الموت. وتبيّن بعد ذلك أن خصمه اللدود ومنافسه على الحكم هو من دبّر ذلك الهجوم كي يخلو له الجوّ وينعم لوحده بمنصب لا ينافسه فيه منافس. 
    وقد فجّرت عملية الاغتيال تلك حربا أهلية مدمّرة دامت سبعين عاما وأدّت إلى تقسيم فرنسا إلى معسكرين. 
    فرانسوا ريشار رسم هذه اللوحة بعد مضيّ أربعمائة عام على تلك الأحداث. 
    وقد واتته فكرتها عندما رأى ضريح فالانتينا ذات يوم في احد مقابر باريس. وأدهشه بشكل خاصّ العبارة المنقوشة على شاهد القبر والتي تقول: لم يبقَ لي شيء. وأنا نفسي لا شيء!" 
    كان الرسّام يدرك جيّدا مغزى تلك العبارة المنسوبة للمرأة والتي تعكس يأسها وحزنها الدفين على فقد زوجها وأسفها على الماضي الذي ضاع وانقضى. 
    كانت فالانتينا ابنة لدوق ميلانو الذي كانت عائلته تمتّ بصلة قربى ونسََب للعائلة الملكية الفرنسية. وقد عاشت مع زوجها الدوق ثمانية عشر عاما كانت خلالها مثالا للزوجة المحبّة والوفيّة. وعندما مات، كان حزنها عليه عظيما وظلّت تبكيه عاما كاملا إلى أن توفّيت وهي لا تتجاوز الثامنة والثلاثين من عمرها. 
    ليس في هذه اللوحة شيء سوى الحزن والشعور العميق بالفقد والخسارة. حتى الكلب الواقف إلى جوار المرأة توحي هيئته بأنه هو أيضا يشارك سيّدته في حزنها ويشاطرها مصيبتها. 
    لم يكن فرانسوا ريشار رسّاما فقط، بل مارس الكتابة الأدبية والنقد. وعمل أستاذا في معهد الفنون الجميلة. كما عُرف عنه اهتمامه باكتشاف الطبيعة والآثار. ويصنّف على أنه رائد ما سُمّي بأسلوب التروبادور في الرسم، وهو مصطلح مستمدّ من ظاهرة الشعراء المتجوّلين الذين راجت أشعارهم في العصور الوسطى. 
    وأتباع هذه المدرسة من الرسم كانوا يُعنون برسم "قصائد مصوّرة" يستلهمون مواضيعها من صور الماضي الغابر ومن الأحداث التاريخية والشواهد الأثرية القديمة. 
    عندما عرض ريشار هذه اللوحة لأوّل مرّة في صالون باريس، حققت نجاحا كبيرا وقوبلت بالكثير من الثناء والاستحسان. وقد أعجب بها الفنّان جاك لوي دافيد وامتدح مهارة الرسّام في توظيف الألوان الساطعة وفي تمثيل الضوء والظلّ. 
    كان فرانسوا ريشار الرسّام المفضل للإمبراطورة جوزيفين. وقد اشترت منه هذه اللوحة بعد ثلاث سنوات من إتمامها. ثم انتقلت اللوحة بعد ذلك إلى ملكية عدد من أفراد العائلات الملكية الأوربية. وفي بدايات القرن الماضي ابتاعها متحف بوشكين الروسي وظلّت فيه لسنوات قبل أن تستقرّ أخيرا في متحف الارميتاج في سانت بيترسبيرغ.

    نهــر الضــوء 
    للفنان الأمريكي فريدريـك إدوين تشيـرش، 1877 

    اهتم الرسّامون منذ القدم برسم الطبيعة وتصوير عناصرها المختلفة. وكان هذا النوع من الرسم، وما يزال، يحظى بالشعبية والقبول من الناس. 
    ومع ذلك كان هناك دائما من يعتقد أن رسم الطبيعة يعتبر اقلّ قيمة من الناحية المهارية والإبداعية من رسم البورتريه أو الأشخاص مثلا. مع أن رسم المناظر الطبيعية يتطلّب من الفنان أن يكون عارفا وملمّا باستخدام الألوان وقواعد المنظور ونسَب الضوء والظلّ. 
    وحتى منتصف القرن السادس عشر لم تكن هناك لوحات تصوّر طبيعة نقيّة بالكامل. كانت الطبيعة توظّف فقط كخلفية لمنظر يصوّر نشاطا إنسانيا ويتضمّن عادة رموزا أو رسائل دينية أو اجتماعية أو تاريخية. 
    في ما بعد تغيّرت الحال، وظهرت أعمال فنّية كثيرة مكرّسة بالكامل لتصوير جمال الطبيعة وإعطائها أبعادا ومضامين روحية وشعرية وفلسفية. 
    ومن أشهر من رسموا الطبيعة الفنّان فريدريك تشيرش الذي يُعدّ احد أشهر رسّامي الطبيعة الأمريكيين. كان تشيرش عضوا في مدرسة نهر هدسون التي كانت تُعنى برسم الطبيعة الأمريكية. كما كان احد مؤسّسي متحف المتروبوليتان في نيويورك في العام 1869م. 
    وقد تتلمذ على يد توماس كول الذي كان يرى ضرورة أن تتضمّن لوحات الطبيعة معاني رمزية وروحية. 
    كانت لوحات رسّامي مدرسة نهر هدسون عن الطبيعة تتسم بواقعيّتها الفائقة وبإيلائها اهتماما خاصّا بالأجزاء والتفاصيل الصغيرة. 
    وكان من عادة أولئك الرسّامين أن يسافروا إلى أماكن نائية ومجهولة كي يرسموا مظاهر الطبيعة فيها، وعلى الأخصّ أحوال المناخ وتشكيلات الغيوم ومشاهد غروب الشمس وشروقها. 
    كما كانوا يركّزون على الطبيعة كمكان يتعايش فيه الإنسان والنبات والحيوان جنبا إلى جنب بسلام. 
    هذه اللوحة تصوّر منظرا بانوراميا ينطق بسحر الطبيعة وجلالها في صبيحة يوم غائم في إحدى غابات المطر الاستوائية. 
    في المشهد نرى نهرا يشبه المرآة تحيط به من الجانبين غابة تغرق في الضباب. 
    ولأول وهلة قد يظنّ الناظر أن ما يراه هنا صورة فوتوغرافية بالنظر إلى شدّة واقعية اللوحة. 
    ويبدو واضحا أن الفنان اهتمّ بأدقّ وأصغر التفاصيل وهو يرسم. واللوحة تذكّر، على نحو خاص، بالطبيعة البكر وبالبهاء والفخامة التي تتميّز بها الحياة في المناطق الريفية وفي الغابات. 
    لوحات تشيرش مشبعة بالضوء وممتلئة بالتفاصيل الصغيرة. وتكثر فيها صور الشواطئ الضبابية وقمم الجبال العالية والغابات العذراء وشلالات المياه العظيمة. 
    كما تتميّز مناظره بكثافتها الشاعرية وبمعانيها الروحية العميقة. وقد وجد بعضها طريقه إلى الروايات والأدب الأمريكي الذي يتناول مكانة الطبيعة في التجربة الأمريكية. 
    وقد تأثر في لوحاته بأفكار المنظّر الانجليزي جون راسكين والمستكشف وعالم الطبيعة الألماني الكسندر همبولدت وبكتابات المفكر الأمريكي رالف ايمرسون. 
    ممّا يلفت الانتباه انه ليس هناك في هذا المنظر سوى الطبيعة وحدها. إذ لا وجود للبشر، باستثناء رجل تلوح صورته من بعيد وهو يجذّف بقاربه الصغير عند مدخل الغابة. 
    وبوسع المرء وهو يتأمّل هذا المنظر أن يتخيّل صمت وهدوء المكان الذي لا يقطعه، ربّما، سوى صوت انسياب الماء بنعومة وأصوات الطيور والعصافير التي يظهر بعضها على أغصان الشجر وفوق صفحة مياه النهر. 
    استوحى تشيرش أجواء مناظره من تجاربه الشخصية ومن أسفاره إلى أمريكا اللاتينية التي ذهب إليها ليرسم أنهارها وجبالها وغاباتها. وقد حقّقت بعض لوحاته أعلى المبيعات ليصبح أغلى رسّام أمريكي في زمانه. وكانت أعماله تجتذب الآلاف من الناس الذين كانوا يأتون من شتّى الأماكن لرؤيتها. 
    كما أكسبته لوحاته عن طبيعة أمريكا الجنوبية شهرة مدويّة واعتبره النقاد آنذاك أعظم رسّام طبيعة أمريكي بعد أستاذه كول. 
    وقد تمكّن في لوحاته اللاتينية من الإمساك بجوهر مناظر الغابات الاستوائية الممطرة كما تجسّده هذه اللوحة ولوحتاه الأخريان المشهورتان قلب الأنديز وغسَق في البرّية. 
    اللوحات التي رسمها تشيرش وزملاؤه للطبيعة الأمريكية البدائية لعبت دورا مهمّا في تاريخ الرسم الأمريكي وفي المخيّلة والوعي الثقافي للأمريكيين. كما شجّعت على استيطان مناطق الغرب وزرعت في الناس الإحساس بحبّ الطبيعة والاستمتاع بها وحمايتها. 
    غير أن ازدياد مظاهر الحياة الصناعية في القرن التاسع عشر كان له تأثير معاكس. إذ أدّى زحف التكنولوجيا إلى إتلاف الكثير من مظاهر البيئة الطبيعية، ما دعا الكثيرين وقتها إلى تأسيس حركات تدعو إلى تقليل الأضرار الناتجة عن زحف النمو الصناعي من خلال العمل على إعادة التوازن ما بين الإنسان والطبيعة.
     التوقيع 
    " إذا كنت ترغب في التحدث معي عرف ما تقول وحدد قولك " فولتير
  3. #33
    صورة عضوية ReX
    ReX 
    ReX غير متصل حالياًعضو مميز جداً
    تاريخ الانضمام
    06/12/2009
    الجنس
    ذكر
    المشاركات
    7,671

    افتراضي

    الجـواد ويسـل جـاكيــت 
    للفنان البريطاني جــورج ستـبــس، 1762 


    يعتبر جورج ستبس اشهر من رسم الحصان من الفنانين القدامى والمعاصرين على حدّ سواء. وقد رسم هذه اللوحة الضخمة والشهيرة في حوالي العام 1762 بناءً على طلب الماركيز بروكنغهام صاحب الجواد. 
    هذه اللوحة ما تزال تفتن الفنانين ودارسي الفن. ويعتقد بعض النقاد أنها لم تكتمل، إذ يُفترض أن ستبس الذي اشتهر أيضا برسم مناظر طبيعية وبوتريهات لاشخاص كان ينوي ملء الخلفية بمنظر طبيعي وبصورة لجورج الثالث ملك انجلترا في ذلك الوقت. 
    لكن الخلافات السياسية بين الماركيز والملك فرضت على الفنان أن يترك اللوحة فارغة إلا من صورة الجواد. 
    في تلك الفترة أنجز ستبس سلسلة من اللوحات لجياد جماعية أو بصحبة كلاب صيد. ثم رسم لوحات أخرى لأسود ونمور وزراف صوّرها من خلال المشاهدة والملاحظة. لكن الفنان ما لبث أن انشغل بفكرة رسم جياد في حالة صراع مع اسود مفترسة. 
    لوحة "الجواد ويسل جاكيت" تصوّر حصانا فخما ينحدر من اصل عربي وكان بطلا لا ينازع في سباقات الخيول التي كانت تجري آنذاك. وكما هو واضح ليس في المشهد أشخاص ولا مناظر طبيعية، والفراغ المحيط باللوحة يوجّه اهتمام الناظر كليا إلى الجواد الذي يثب في الهواء ويرمق الناظر بعين كبيرة سوداء ينبعث منها البريق. 
    ويرى بعض النقاد أن اللوحة هي بمعنى ما دراسة رومانتيكية تجسّد الحرية والانعتاق، إذ يظهر الجواد وقد تحرّر من القيود التي كانت تكبّله في الحياة الواقعية ليمارس انطلاقه في فراغ مجرّد ولا نهائي. 
    كان ستبس يؤمن دائما بأهمية الملاحظة في الإبداع، وقد زار إيطاليا في عام 1754 دارسا ومنقّبا، وهناك تعزّزت قناعته بأن الطبيعة تتفوّق على الفن. 
    تخصّص ستبس في رسم الخيل في حقبة تاريخية كانت فيها الخيول تتمتّع بمكانة عظيمة واستثنائية. وكانت الطبقة الأرستقراطية في بريطانيا في ذلك الوقت شغوفة جدا بتربية واقتناء الخيول.
    وقد درس الفنان بشكل معمّق تشريح جسم الحصان وله دراسة تفصيلية عن الخصائص الجسدية للخيل. 
    لكنه حرص في هذه اللوحة الرائعة على إظهار الانفعالات الداخلية للحيوان من قبيل توتّره الواضح وقوّته الجبّارة وروحه الحرّة وعزيمته المتوّثبة وتلك النظرة المرتعبة التي تنطق بها عيناه. كان الحصان وما يزال موضوعا متكرّرا في الأدب والفنّ. وكان له أثره في التاريخ الإنساني بما يفوق ما لغيره من الحيوانات الأخرى. كان يحمل المستكشفين والرحّالة والجيوش إلى ابعد الأماكن والقارّات. ورغم أن أمجاد الحصان أصبحت جزءا من الماضي، فإنه ما يزال يدهشنا ويفتننا. يكفي أن يهمس السائس أو المدرّب بكلمة أو اثنتين في أذن الحصان حتى يتحوّل من مخلوق جامح متوحّش إلى حيوان رقيق ووديع. 
    ويقال إن الحصان الموجود اليوم متطوّر كثيرا عن أسلافه. فقبل حوالي خمسين مليون عام، كان الحصان حيوانا صغيرا بحجم الثعلب يسرح ويمرح في غابات أمريكا الشمالية ويتغذّى على الفاكهة وورق الشجر. 
    وقد احضر الأسبان معهم الحصان إلى العالم الجديد في حوالي القرن الرابع عشر وأطلقوه في البراري حيث تكاثرت قطعان كثيرة ممّا يسمّى بالجواد البرّي. 
    والثابت أن الإنسان استأنس الحصان منذ حوالي 5000 عام. ومنذ ذلك الوقت لعب الحصان دورا مهمّا في صياغة حياة الإنسان وأسلوب معيشته سواءً في المواصلات أو في الحروب وغيرهما. 
    وأينما نقل الإنسان خطاه في مشواره الطويل منذ العصور البربرية، كنت تجد آثار الحصان إلى جواره جنبا إلى جنب. 
    ونظرا لارتباطه بالحروب والمعارك، فقد صار يرمز إلى القوّة والسلطة والمكانة العالية. 
    ومع ظهور عصر الشاحنات والعربات والقطارات تضاءل الاعتماد على الحصان لأغراض المواصلات. لكن هذا لم يمنع المستكشف الانجليزي جيمس وات من ابتكار مصطلح قوّة الحصان ليجعله مقياسا لقوّة المحرّكات الحديثة، وهو أمر يوحي بما لهذا الحيوان من احترام وهيبة. 
    حتى سائقي سيّارات السباق هذه الأيام يتفقون على أن أفضل سيّارات السباق أداءً وسرعة لا تماثل أبدا ما يتمتّع به الحصان من شخصية آسرة ومن مكانة وعنفوان. 
    وأخيرا، قد يكون الكلب أفضل صديق للإنسان. لكنّ الذي كتب التاريخ كان حصانا.

    كَمَـان وشمعـدان
    للفنان الفرنسي جـورج بْرَاك، 1910

    ترى، لو لم يختر الرسّام عنوانا لهذه اللوحة ذات اللون الأحادي، هل سيكون من السهل بالنسبة للناظر أن يتعرّف على طبيعة الأشياء المرسومة فيها؟ 
    قد يقول قائل انه بشيء من التركيز والتمعّن في تفاصيل اللوحة يمكن رؤية شيء اقرب ما يكون لشكل آلة الكمان في الجزء السفلي الأيسر منها. أما الشمعدان فالأرجح أن لا ترى سوى بعض أجزائه المفكّكة والمتناثرة في منتصف اللوحة.
    بعض النقّاد يرى في هذه اللوحة تجسيدا للسمات الديناميكية والحيوية التي طبعت التكعيبية التحليلية. وهي أسلوب فنّي ثوري ابتدعه كلّ من جورج بْرَاك وبابلو بيكاسو لتصوير أشياء ذات بعد ثلاثي على قماش مسطّح، دون استخدام المنظور التقليدي الذي كان معمولا به منذ عصر النهضة.
    وهذا الأسلوب في الرسم ينحو باتجاه تكسير الأشياء وتجزئتها وتسطيحها ومن ثمّ إعادة بنائها من نقاط متعدّدة.
    كان بْرَاك يرى أن هذا النوع من التجزئة يسهم في تقريب الأشياء أكثر. وهذه اللوحة تختصر هاجس الفنّان بشكل الأشياء، ورغبته في أن يخلق وهما في ذهن الملتقّي كي يتنقّل بحرّية داخل اللوحة. 
    عندما تنظر إلى هذه اللوحة لأوّل وهلة، قد يُخيّل إليك أنها تتحرّك. بْرَاك كان يرى أن الآلات الموسيقية تحتفظ بأهمية اكبر من حيث أنها تتحرّك وتتفاعل بمجرّد أن يلمسها الإنسان. ومثل الإيقاع والتجانس اللذين يميّزان حياة الآلات الموسيقية، فإن الحركة الديناميكية للمكان هي جوهر غنائية لوحات بْرَاك التكعيبية.
    وفي اختياره لموضوع الكمان والشمعدان، يخبرنا بْرَاك انه يرسم وفق تقليد مألوف يستمدّ أصوله من رسوم الحياة الساكنة الهولندية والفرنسية. وبناءً عليه، فإن ما نراه ليس تمثيلا وهميا لكمان وشمعدان، لأنه بالإمكان أن نرى في تفاصيل اللوحة بعض المؤشّرات أو العلامات الدالّة على وجودهما.
    وفي تمثيله للآلة الموسيقية على وجه الخصوص، يُلاحظ أن الرسّام استخدم خطوطا تجريدية، لكنها واضحة بما يكفي ودونما حاجة للعنوان، لأن نفهم أنها تشير إلى جانبي جسم آلة الكمان. كأن الرسّام يجرّب إلى أيّ مدى يمكن للخطوط والأشكال التجريدية أن تمثل الأشياء وتقرّبها من ذهن المتلقّي.
    ظهرت التكعيبية كأسلوب مميّز ومؤثّر من أساليب الفنون البصرية في باريس في الفترة ما بين عامي 1907 و 1914م. وكان هذا الأسلوب يمثّل ثورة وفي نفس الوقت قطيعة مع أساليب الرسم التقليدية المعروفة.
    وهناك اتفاق بين مؤرّخي الفنّ على أن بابلو بيكاسو وجورج بْرَاك هما الأبوان المؤسّسان للتكعيبية. لكن كان هناك رسّامون آخرون دفعوا بالحركة قُدُماً، مثل فيرناند ليجيه وسونيا ديلوناي وخوان غْرِيس ومارسيل دُوشان.
    الناقد الفنّي الفرنسي لوي فوسيل كان أوّل من استخدم مصطلح التكعيبية عام 1908 عندما رأى لوحة لـ بْرَاك ووصفها بأنها "مكعّبات غريبة". وسرعان ما انتشر المصطلح على نطاق واسع، رغم انه لم يرق كثيرا لـ بيكاسو وبْرَاك. 
    وفي ما بعد، وصف مؤرّخ آخر التكعيبية بأنها "المحاولة الأكثر تطرّفا للقضاء على الغموض وفرض قراءة واحدة للصورة".
    وقد رفض الرسّامون التكعيبيون التمسّك بالمنظور. كما نحّوا جانبا القاعدة القديمة التي تقول إن الفنّ يجب أن يحاكي الحياة وفضّلوا عليها تمثيل الأشخاص والأشياء بطريقة مجزّأة.
    بْرَاك كان دائما معجبا بالشكل والثبات. ولوحاته تختصر هدف التكعيبية الأساسي، وهو تمثيل العالم كما يُرى من وجهات نظر مختلفة ومن زوايا متعدّدة. 
    ولد جورج بْرَاك في ارجنتويل في مايو من عام 1882. وقد تعرّف منذ صغره على الألوان وأدوات الرسم في متجر والده. وفيما بعد تلقّى بعض الدروس في أكاديمية الفنون.
    وعندما انتقل إلى باريس، عمل مع احد رسّامي الديكور واستمرّ في تلقي دروس خاصّة في الرسم. وفي عام 1907 قابل بابلو بيكاسو أثناء عمل الأخير على لوحته المشهورة آنسات أفينيون. ومنذ ذلك الحين ربطت الاثنين صداقة وثيقة. ويقال أنهما ابتكرا التكعيبية في الرسم عندما كانا يلاحظان عن قرب بعض لوحات بول سيزان.
    وقد بدأ الاثنان رحلتهما مع التكعيبية باستخدام ألوان محايدة وأنماط هندسية معقّدة. ثم بدأ بْرَاك يوظّف الكولاج في أعماله باستخدام أشياء متنوّعة من الحياة اليومية مثل الصحف والحبال والورق والزجاج والنسيج وخلافه.
    خدم جورج بْرَاك كجندي في الجيش الفرنسي أثناء الحرب العالمية الأولى. وعانى وقتها من إصابة بالغة في الرأس تلتها فترة نقاهة طويلة. ثم عاد إلى الرسم مرة أخرى عام 1917م. لكنه لم يلبث أن انفصل عن التكعيبية وأصبح يميل أكثر إلى التجريب في محاولة لاكتشاف أساليب فنّية جديدة.
    وقد توفّي الرسّام في باريس في أغسطس من عام 1963 ودُفن في إحدى كنائس النورماندي. وأعماله موجودة اليوم في العديد من المتاحف العالمية المشهورة.

    الملـك العجـوز 
    للفنان الفرنسي جـورج رول، 1936

    يُصنّف جورج رول من بين أكثر الرسّامين التعبيريين موهبة. وقد جرّب الوحوشية قبل أن يتبنّى الأشكال التعبيرية ثم الرمزية، متأثّرا بمعلّمه الرسّام الرمزي غوستاف مورو. كان رول تلميذ مورو المفضّل. وأعماله الأولى، وبينها مواضيع دينية وبورتريهات، نفّذت بطريقة تشبه كثيرا لوحات أستاذه. 
    مواضيع رول محدودة وتتألّف غالبا من المواضيع الدينية والطبيعة الحزينة، ومن وقت لآخر كان يرسم باقات الأزهار. لكنه رسم أيضا لوحات قاتمة عن بائعات الهوى والفقراء. 
    "الملك العجوز" هي احد أكثر أعمال جورج رول نضجا، وهي بلا شك تحفته الفنّية بألوانها اللامعة وخطوطها السوداء الثقيلة. 
    كان الرسّام يبحث عن مواضيع مناسبة لإحساسه بالسخط والتقزّز إزاء شرور البورجوازية. والملك العجوز، الذي يمثّل نموذجا ايقونيّاً للسلطة، يعكس تغيّرا في نظرة الفنّان الانفعالية والأخلاقية. ورغم أن اللوحة لا تشير إلى سياق تاريخيّ معيّن، إلا أن هيئة الملك تذكّر بملوك آشور وبابل وبالنقوش المصرية القديمة. وتصوير الشخصية جانبيّاً يضاهي الصور الموجودة على النقود المعدنية الرومانية واليونانية القديمة. 
    الألوان اللامعة والخطوط السوداء السميكة والمستمدّة من تصاميم النوافذ المعشّقة تثير إحساسا بالسلطة وبغموض الملوك القدامى. الحاكم أو الملك في اللوحة لا يحمل سيفا أو أيّ سلاح آخر يرمز للسلطة الدنيوية، وإنما يمسك بما يشبه الزهرة البيضاء التي ترمز عادة إلى هشاشة الحياة وحتمية الفناء ودورة الولادة والموت. 
    ومثل معظم لوحات الرسّام، فإن "الملك العجوز" ممزوجة بإحساس بالتناقض المأساوي الذي توحي به قوّة الملك وضعفه في نفس الوقت. 
    بدأ جورج رول رسم هذه اللوحة خلال الحرب العالمية الأولى التي أطاحت بالملكيّات القديمة في أوربّا. وأكمل رسمها أثناء السنوات المضطربة التي سبقت نشوب الحرب العالمية الثانية التي جلبت معها للبشرية فظائع اكبر. وقد اشترى اللوحة متحف كارنيغي للفنّ في بداية تلك الحرب عندما بدا أن رؤية رول المأساوية تذكّر بظلمات وكوارث القرن العشرين. 
    أسلوب الفنّان يتسم بكثرة استخدامه للألوان الباذخة وضربات الفرشاة السميكة، وهي تقنيات اكتسبها من دراسته تصميم الزجاج ومن التعليم الذي تلقّاه على يد مورو. وهناك أيضا استخدامه للتباينات الحادّة والجانب الانفعالي في أعماله، وهما ملمحان يُعزيان إلى تأثير فان غوخ عليه. 
    ولد جورج رول عام 1871 في باريس لعائلة فقيرة. وقد شجّعته أمّه على دراسة الرسم في سنّ مبكّرة. وعندما انتظم في كليّة الفنون الجميلة بباريس كان من بين زملائه هنري ماتيس. وقد قرّبته تلك العلاقة من الاتجاه الوحوشي الذي كان ماتيس زعيما له، فرسم لوحات تغلب عليها السمات الوحوشية كالألوان الساطعة والتصميم البسيط. 
    كان رول يكتب الشعر والنثر، وكانت الطبيعة البشرية دائما في مركز اهتمامه. وفي بعض الأوقات، انجذب إلى الروحانيات والى الأفكار الوجودية للفيلسوف جاك ماريتان الذي احتفظ معه بصداقة وثيقة إلى أن توفّي. 
    في عام 1902، عانى الرسّام من مرض خطير. وأصبحت رسوماته تعكس اهتمامه العميق بمعاناة الإنسان وتدهور حال المجتمع. ثم رسم عدّة لوحات مكرّسة لانتقاد المحاكم والمهرّجين والمومسات. ولم يلبث أن كرّس وقته بالكامل لرسم اللوحات الدينية. 
    وفي نهايات حياته، احرق أكثر من ثلاثمائة من لوحاته يقال أن قيمتها اليوم تساوي ملايين الدولارات. وكانت حجّته في ذلك التصرّف الغريب انه لن يعيش بما فيه الكفاية كي يكملها. 
    توفّي جورج رول في باريس في فبراير من عام 1958 عن 87 عاما. وقد أقيمت له في مناسبات مختلفة معارض تذكّرية في العديد من العواصم الأوربّية وفي اليابان.
     التوقيع 
    " إذا كنت ترغب في التحدث معي عرف ما تقول وحدد قولك " فولتير
  4. #34
    صورة عضوية ReX
    ReX 
    ReX غير متصل حالياًعضو مميز جداً
    تاريخ الانضمام
    06/12/2009
    الجنس
    ذكر
    المشاركات
    7,671

    افتراضي

    عصــر غــامــض 
    للفنان اليوناني جيـورجيـو دي كيـريكــو، 1914 


    في هذه اللوحة المشهورة، يحاول الفنان دي كيريكو ابتداع لغة مرئية عن عبثية الوجود وهشاشة الحياة وغموض المصير. 
    وقد استخدم الرسّام في اللوحة المنظور المائل والطويل والفراغات الكبيرة والظلال السوداء والممتدّة، ولجأ إلى تصغير الأشخاص وجعلهم يتوارون في خلفية المشهد. كما وظّف الأشكال والأجسام خارج سياقاتها الطبيعية من اجل خلق أجواء من الغموض والعزلة والترقّب. 
    ارتبط اسم دي كيريكو بمفهوم الرسم الميتافيزيقي. وتغلب على لوحاته مشاهد لأماكن مقفرة ومهجورة ودخان غامض وعربات أشبه ما تكون بالتوابيت، وذلك لتكثيف الشعور بعالم الماورائيات والغيب. 
    يقول بعض النقّاد إن لوحات دي كيريكو أسهمت بشكل كبير في نشوء السوريالية. وقد قرأ السورياليون لوحاته من منظور فرويدي في الغالب ووظّفوا في أعمالهم بعض الثيمات التي استخدمها دي كيريكو في لوحاته كالجوّ السكوني والصمت المطبق والتماثيل والأعمدة القديمة والأضواء الخفيّة التي تبعث في النفس إحساسا بالتوجّس والرهبة. 
    ولد دي كيريكو (أو تشيريكو كما ينطق اسمه أحيانا) في اليونان لأبوين ايطاليين. لكنه عاش الجزء الأكبر من حياته في إيطاليا. وقد كان قارئا نهما للفلسفة وتأثّر كثيرا بأفكار نيتشه الذي كان يرى في كل شئ محسوس معنى خفيّا. كما تأثّر بفلسفة شوبنهاور الذي دعا الإنسان لأن يكتشف الجوهر الحقيقي للأشياء وذلك بعزل نفسه عن العالم كي يبدع أفكارا خلاقة وخالدة. 
    علاقة دي كيريكو الوثيقة باليونان القديمة وبالثقافة الهيلينية تزاوجت مع تقديره وشغفه بالفنّ الكلاسيكي الايطالي. وكان للأساطير الإغريقية تأثير عظيم عليه خاصّة في مستهلّ حياته، حيث رسم العمالقة ومخلوقات القنطور وآلهة الأوليمب. وبعض لوحاته المبكّرة رسم فيها مناظر للخيول التي سبق وأن رآها في مسقط رأسه باليونان. وفي ما بعد، تكرّرت صور الخيول في أعماله ومن بينها منحوتة برونزية صوّر فيها منظرا لخيول قديمة تقف في البرّية. 
    عندما زار دي كيريكو باريس سنة 1911 لم ينجذب للتكعيبية أو التجريدية اللتين كانتا في حالة صعود آنذاك. وقد نالت أعماله التي عرضها هناك بعض الثناء من شخصيات بارزة مثل الشاعر ابولينير الذي وصف دي كيريكو بأنه "عدوّ الأشجار وصديق التماثيل". 
    أهم ملمح في هذه اللوحة هو المنظور الذي استخدمه الرسّام كأداة فلسفية وشعرية وانفعالية. وهناك أيضا العلاقة بين الفضاءات حيث الأبنية والتماثيل والأشخاص منفصلة تماما عن بعضها البعض وعن الواقع، وتعطي شعورا باللانهائية وانعدام الإحساس بالزمن. 
    "غموض العصر" ليست منظرا طبيعيا بل صورة ذهنية عبّر الفنّان من خلالها، وباستخدام التجريد والمجاز، عن قلق الإنسان وخواء الحياة. 
    من أشهر لوحاته الأخرى أغنية الحبّ التي يقال بأنها مهدّت لظهور المدرسة السوريالية في الفنّ.


    الطـفــل البـاكــي 
    للفنان الاسباني جيوفـاني براغوليـن 


    ربما تكون هذه اللوحة مألوفة للكثيرين.. 
    جيوفاني براغولين "ويُعرف ايضا باسم برونو اماديو" لا ُيعرف عنه سوى انه عاش في فلورنسا ورسم سلسلة من اللوحات الفنية الجميلة لأطفال دامعي العيون تتراوح أعمارهم ما بين سنّ الثانية والثامنة، تحت عنوان "الطفل الباكي". 
    هذه اللوحة بالذات هي اشهر لوحات المجموعة وتصوّر طفلا ذا عينين واسعتين والدموع تنساب من على وجنتيه. 
    من الواضح أن هيئة الطفل تشعر الناظر بالحزن والشفقة وتلعب على وتر المشاعر الإنسانية بعمق. 
    لكن لهذه اللوحة قصّة أخرى غريبة بعض الشيء. 
    ففي العام 1985 نشرت جريدة الصن البريطانية سلسلة من التحقيقات عن حوادث اندلاع نار غامضة كان البطل فيها هذه اللوحة بالذات. 
    كانت اللوحة ذات شعبية كبيرة في بريطانيا حيث كانت ُتعلق في البيوت والمكاتب باعتبار مضمونها الإنساني العميق. 
    لكن الصحف ربطت بين اللوحة وبين بعض حوادث الحريق التي شهدتها بعض المنازل والتهمت فيها النيران كل شئ عدا تلك اللوحة. 
    وتواترت العديد من القصص التي تتحدّث عن القوى الخارقة التي تتمتع بها اللوحة وعن الشؤم الذي تمثّله، وكلما وقع حريق في مكان تشكّل تلك اللوحة عنصرا فيه، كلما أتت النيران على كلّ شئ واحالت المكان إلى رماد. 
    وحده الطفل الباكي كان ينجو من الحريق في كلّ مرة ودون أن يمسّه أذى! 
    ولم تلبث الجريدة أن نظّمت حملة عامّة أحرقت فيها آلاف النسخ من هذه اللوحة، واستغلّ الناس الفرصة ليخلّصوا بيوتهم من ذلك الضيف الصغير والخطير! 
    لكن القصّة لم تنته عند هذا الحدّ. فقد أصابت لعنة الطفل الباكي جريدة الصن نفسها، ليس بسبب حريق وانما بفعل الإضراب واسع النطاق الذي قام به عمّالها ومحرّروها وانتهى بطريقة عنيفة، ما دفع أصحاب الجريدة إلى التفكير جدّيا في إغلاقها في نهاية الثمانينات. 
    ومن يومها اصبح كل من يعتبر الطفل الباكي نذير شؤم وعلامة نحس عازفا عن شراء أيّ منظر لطفل حزين ذي عينين واسعتين! 
    لكنّ ذلك كله لم يؤثر في الكثيرين ممن اعتادوا على رؤية اللوحة والإعجاب بفكرتها ومحتواها الإنساني، وافضل دليل على ذلك أن اسم اللوحة تحوّل إلى عنوان لـ موقع اليكتروني يضمّ نسخا مكبّرة من كافّة أعمال براغولين التي رسمها تحت نفس العنوان.

    القـوط الأمـريكيـون 
    للفنان الأمريكي غـرانـت وود، 1930 


    عندما ظهرت هذه اللوحة لاول مرة أثارت جدلا كبيرا في أوساط الفن، إذ اعتبرها بعضهم كاريكاتيرا مهينا بحق سكان الريف البسطاء. 
    لكن لوحة "القوط الأمريكيون" اكتسبت القبول والاعتراف شيئا فشيئا إلى أن أصبحت في فترة وجيزة اكثر اللوحات الفنية شعبية ورواجا في الولايات المتحدة. 
    كان الفنان غرانت وود يتبنى واقعية القرن الخامس عشر في الفن الأوربي، وقد استمد الفنان موضوع لوحته من بيئة موطنه في ولاية ايوا بالغرب الأوسط الأمريكي. 
    لوحة "القوط الأمريكيون" تصوّر مزارعا وابنته العانس وهما واقفان أمام منزلهما ذي الملامح المعمارية القوطية، ومن هنا أخذت اللوحة عنوانها. 
    وفي الواقع فان "الموديلين" اللذين استخدمهما الفنان في رسم اللوحة هما أخت الفنان نفسه وطبيب أسنان العائلة. 
    وقد اتهم الفنان وود بإنتاج هذه اللوحة من اجل السخرية من التعصب والصرامة اللتين تتسم بهما الطبيعة المنعزلة لسكان الريف الأمريكي. 
    واصبحت اللوحة مثارا للكثير من الآراء المتناقضة. فبعض النقاد قالوا إنها تشكل احتفالا بالقيم الأمريكية الاصيلة، والبعض الآخر ذهب إلى أن اللوحة تمثل نقدا ساخرا لتلك القيم. 
    قد يكون الرجل الواقف في اللوحة ممسكا بمقشّة مزارعا، وقد يكون واعظا، وهو هنا – وبدافع الغيرة – يحرس ابنته من عيون الرجال المتطفلين. 
    الطراز القوطي للمنزل والنظرات الوقورة للرجل والملامح الحادة للمرأة كلها ثيمات قد ترجح احتمال أن يكون الفنان أراد فعلا السخرية من القيم الموغلة في المحافظة والتشدد الذي كان سائدا في بيئته خلال ثلاثينات القرن الماضي. 
    ومنذ العام 1930 وحتى اليوم، ظلت "القوط الأمريكيون" من مقتنيات معهد شيكاغو للفن المعاصر، وتعتبر اللوحة واسطة عقد الأعمال الفنية الممتازة التي تضمها مجموعة المعهد. 
    واللوحة برأي الكثير من النقاد تعتبر إحدى اشهر عشر لوحات في تاريخ الفن العالمي كله. 
    أما المرأة العانس فينظر إليها على أنها إحدى اشهر ثلاث شخصيات أنثوية خلدهن فن التصوير، أما الشخصيتان الأخريان فهما موناليزا دافنشي ووالدة الفنان جيمس ويسلر.

    الصيـف 
    للفنان الفنلندي غونـار بيرنـدتسـون، 1893 


    الطبيعة في اللوحة من شمال أوربّا. والمنظر يصوّر يوما صيفيا مشمسا على شاطئ إحدى البحيرات في فنلندا. جوّ اللوحة قد لا يتطابق تماما مع واقع الحياة الفنلندية في ذلك الحين. فقد كان معظم الناس يعيشون حياة زراعية في الغالب، بينما كان آخرون يعانون من الفقر والحاجة. 
    المرأة والصبيّ الظاهران في اللوحة ينتميان للطبقة البرجوازية القليلة العدد والواسعة الثراء. والمزاج الشاعري الذي تعكسه اللوحة ينقل صورة لطبيعة حياة تلك الطبقة وطريقة استمتاع أفرادها بأوقات الراحة والعطل. 
    من الواضح أن الرسّام اهتمّ كثيرا بالتفاصيل في اللوحة، من قبيل الصخور المغمورة تحت الماء وأشعّة الشمس الصيفية المنعكسة على مياه البحيرة. 
    كانت شقيقة الرسّام زوجة لأحد البارونات وكان يتردّد على منزلها لزيارتهم من وقت لآخر. لكن قبل عامين من رسمه اللوحة، توفّيت شقيقته فجأة تاركة وراءها تسعة أطفال. 
    كان أكبر الأبناء بنتا اسمها كارين وهي التي تظهر في اللوحة بصحبة اصغر أشقّائها. وقد أراد الرسّام من وراء اللوحة إظهار اهتمام ورعاية ابنة شقيقته ذات الخمسة عشر ربيعا بأشقائها وعظم المسئولية التي أصبحت تضطلع بها بعد رحيل والدتها المفاجئ. 
    وتظهر كارين في اللوحة وهي تجلس على جسر خشبي صغير بالقرب من طرف البحيرة بينما تمسك بيدها كتابا. وعلى مقربة منها يظهر شقيقها الأصغر جالسا في قارب صغير. حرص المرأة على أخيها واضح من خلال مراقبتها اللصيقة له، فهي تدير وجهها باتجاهه وتقطع القراءة كي تطمئنّ على سلامته وتتأكد انه بعيد عن أيّ خطر محتمل. 
    مظهر الفتاة وطريقة لباسها تدلّ على مكانتها الاجتماعية. وهناك بالقرب منها وشاح قشيب الألوان وسلة من الخشب. 
    براعة بيرندتسون وعنايته بالتفاصيل واضحة من خلال أسلوبه في تمثيل الماء والأشجار والأعشاب البحرية والظلال والحجارة بطريقة تجعل اللوحة اقرب ما تكون للصورة الفوتوغرافية. 
    كان بيرندتسون احد الرسّامين الفنلنديين القلائل الذين حقّقوا شهرة عالمية في زمانه. وقد كان مختلفا عن معظم معاصريه من الفنّانين الفنلنديين الذين كانوا واقعين تحت تأثير مشاعرهم القومية. كان هؤلاء يروّجون لفكرة الأمّة الفنلندية من خلال فنّهم، كما وجدوا في الملحمة الوطنية المسمّاة "كاليفالا" التي جُمعت ونُشرت في القرن التاسع عشر مصدرا استلهموا منه مواضيع أعمالهم الفنّية. 
    وقد عُرف عن بيرندتسون نفوره من رسم المواضيع السياسية والاجتماعية. وكان يفضّل غالبا رسم المناظر الطبيعية التي تعكس نظرته المتفائلة للحياة. ولا تخلو لوحاته من مشاهد الريف الخضراء ومن الديكورات الأنيقة والملابس الزاهية والجميلة. 
    درس الفنّان الرسم في باريس التي قضى فيها ستّ سنوات عرض خلالها بعض أعماله في الصالون وفي أكاديمية الفنون الجميلة. 
    ومن أشهر أبناء جيله الموسيقيّ الفنلندي المشهور جان سبيليوس والرسّام البيرت ايديلفيلت الذي يُعتبر بنظر الكثيرين أفضل رسّام طبيعة فنلندي ظهر في القرن التاسع عشر.
     التوقيع 
    " إذا كنت ترغب في التحدث معي عرف ما تقول وحدد قولك " فولتير
  5. #35
    صورة عضوية ReX
    ReX 
    ReX غير متصل حالياًعضو مميز جداً
    تاريخ الانضمام
    06/12/2009
    الجنس
    ذكر
    المشاركات
    7,671

    افتراضي

    صباح الخير مسيو كوربيه 
    للفنان الفرنسـي غوستـاف كـوربيـه، 1854 


    ينقسم النقاد كثيرا حول غوستاف كوربيه. بعضهم يعتبره رسّاما موهوبا. والبعض الآخر يعزو شهرته وذيوع اسمه إلى نرجسيّته وفوضويّته. وثمّة من يزيد على ذلك بالقول إن كوربيه كان فنانا إباحيا ومستفزّا بل وعديم الحياء بدليل لوحتيه "النائمتان" و "أصل العالم". 
    لوحته "صباح الخير مسيو كوربيه" هي أشهر أعماله على الإطلاق. وقد بلغ من شهرتها أن العديد من الحركات الاشتراكية في العالم استخدمت اللوحة في أدبيّاتها واعتبرت مضمونها ترجمة للشعارات الاشتراكية العتيدة التي تدعو إلى المساواة والحرّية والعدالة. 
    في اللوحة يصوّر كوربيه حادثة لقائه مع الثريّ الفريد بروياس الذي ُعرف برعايته للفنون وتشجيعه للفنانين. 
    مكان المقابلة طريق ترابي في منطقة ريفية تحيطها الأشجار والمزارع الخضراء تقع على مقربة من منزل بروياس. 
    إلى اليمين يبدو كوربيه بمظهره البسيط حاملا أدوات الرسم فوق ظهره. وفي مواجهته يقف بروياس ذو المظهر الأنيق الذي يشي بمكانته وطبقته. وخلف بروياس يقف خادمه الذي يحمل عباءته وأشياءه الأخرى. 
    لغة الجسد في هذه اللوحة مهمّة ولها دلالاتها. فالرجل النبيل وخادمه يخلعان قبّعتيهما احتراما للرسّام الذي يبادلهما التحيّة بمثلها. 
    لكنّ كوربيه لا يتنّحى عن الطريق ولا يخفض رأسه بل يرفعه بطريقة مسرحية علامة الاعتزاز والثقة بالنفس، وكأنه يقول لبروياس: لست أنت السيّد وأنا بالتأكيد لست خادما عندك. صحيح أنني فقير لكني في النهاية لست بأقلّ شانا من النبلاء والأغنياء". 
    إن التفاصيل الصغيرة في هذه اللوحة لها أهميّتها. شكل القبّعات واللحى والعصي والأحذية وكذلك إيماءات الجسد، كلّها تحمل دلالات الطبقة التي ينتمي إليها كلّ شخص كما تتضمّن معاني السيادة والخضوع التي يفرضها التفاوت الاجتماعي في المنزلة والطبقة. 
    لكن كوربيه المتمرّد لا يعترف بهذا كله. لقد رسم نفسه على هيئة عملاق ضخم الجثة يشمخ برأسه في الهواء في مواجهة شخصين ضئيلي الحجم ولا حول لهما ولا قوّة. 
    انه يعتبر أن حادثة لقائه بالنبيل تستحقّ أن تسجّل وان يخصّص لها لوحة. وهو لا يأبه كثيرا بحقيقة أن بروياس يستطيع أن يوفّر له الدعم والرعاية أسوة بغيره من الفنّانين. وكلّ ما يهمّه هو أن يظهر نفسه في اللوحة بمظهر الرجل الفخور والمعتدّ بنفسه والمملوء ثورة وحنقا على التقاليد والأعراف الطبقية التي كانت سائدة في فرنسا في ذلك الوقت. 
    وإمعانا في الزهو والإعجاب بالذات، اختار للوحة هذا العنوان الغريب الذي يريد من خلاله أن يوحي بأن النبيل هو الذي بدأه بالسلام وليس العكس. 
    إن مضمون اللوحة قويّ ولا شكّ رغم بساطة خطوطها وخلوّها من الألوان المعبّرة، وإن كان تمثيل الظلال فيها ممّا يسترعي الاهتمام. 
    ممّا يؤثر عن كوربيه قوله لأحد أصدقائه: في مجتمعنا المتحضّر، من الضروري بالنسبة لي أن أعيش كشخص همجي. يجب أن أتحرّر حتى من الحكومات. إنني أتعاطف مع قضايا الناس ويجب أن أخاطبهم مباشرة". 
    إن احتقار كوربيه الواضح للطبقة البورجوازية كان احد مظاهر تمرّده على الكثير من قيود المجتمع وأعرافه المتوارثة. 
    وقد بلغ به التحدّي أن رسم لوحة ضخمة الحجم يصوّر فيها مراسم جنازة أحد أعمامه، وقد ملأ اللوحة بصور لأناس من الفقراء ومن عامّة الناس. ومثل هذا النوع من اللوحات الكبيرة والفخمة كانت تخصّص لتصوير الملوك وعلية القوم في ذلك الزمان. 
    في القرن التاسع عشر، أي زمن كوربيه، سادت الفكرة التي تنادي باستقلال الفنّان. وتزامن هذا مع ظهور البوهيمية التي جاءت كردّ فعل على تلاشي رعاية الدولة للفنون. وقد كان كوربيه جزءا من مجتمع من الكتّاب والموسيقيين والرسّامين الذين تبنوا الأفكار البوهيمية كأسلوب حياة، وكان يجمع بينهم الفقر وحبّ المغامرة والعصيان السياسي وكراهيتهم الشديدة للسلطة وللطبقة البورجوازية. 
    ولم يكن كوربيه يخفي تعاطفه مع الحركات الثورية التي كانت تنادي آنذاك بالإطاحة بالنظام الملكي. وفي ما بعد أصبح عضوا في اللجنة التي تولّت حكم باريس لفترة قصيرة في العام 1871 م. وبعد أن ُحلّت اللجنة عوقب على أنشطته السياسية بالسجن قبل أن ينفى إلى سويسرا. 
    اليوم ُينظر إلى غوستاف كوربيه كأحد المؤسّسين الأوائل للحركة الواقعية في الرسم، في زمن كانت السيادة فيه للأساليب الرومانسية والنيوكلاسيكية.


    اورفـيــوس 
    للفنان الفرنسي غوستـاف مـورو، 1865 


    كان غوستاف مورو رساما غير تقليدي، وكان يفضّل دائما أن يكون له أسلوبه الخاص بدلا من اتباع التقاليد الفنية التي كانت سائدة في عصره. 
    مورو كان معروفا على وجه الخصوص برسوماته الرمزية والغامضة. واكثر أعماله تعكس اهتمامه الكبير بالدين والأساطير. 
    وهناك ثيمات محددة تتكرر كثيرا في رسوماته، واحداها هي ما عرف بفكرة المرأة القاتلة "femme fatale" كما تجسدها لوحته عن سالـومي مثلا. 
    وما تزال لوحاته إلى اليوم تضج بالحيوية وتحظى بالرواج. و اورفيوس هي واحدة من اشهر أعمال مورو التي تظهر ولعه بتصوير الأساطير القديمة. 
    اورفيوس في الأسطورة كان معروفا ببراعته في الموسيقى إلى جانب إتقانه فنون السحر والحكمة. 
    وكان عزفه يفتن الحيوانات وغيرها من الكائنات. وقد احب اورفيوس اوريديشي وتزوجها لكنها سرعان ما ماتت بلدغة ثعبان. 
    اورفيوس اعتبر أن ما حدث لحبيبته لم يكن عدلا، فقرّر الذهاب إلى العالم السفلي واعادتها إلى الحياة. 
    وكان سلاحه في تلك المغامرة هو موسيقاه التي سحر بها الأشباح والهة الموت. 
    لكن أثناء عودته هو وحبيبته إلى عالم الأحياء التفت اورفيوس وراءه ليتحقق من أن اوريديشي تقتفي أثره، وكان في ذلك إخلال بالعهد الذي قطعه للإله هيدز، الأمر الذي دفع الأشباح إلى اختطاف اوريديشي واعادتها ثانية إلى عالم الأموات. 
    وهنا يقع اورفيوس مرة أخرى فريسة للحزن والأسى ويقرر تجنّب مصاحبة النساء طيلة حياته، مما يجلب عليه غضب نساء نرسيس اللاتي هجمن عليه في أحد الاحتفالات ومزّقن جسده عقابا له على صدّه وتجاهله لهن. 
    ومنذ ذلك الحين تحوّلت قصة هبوط اورفيوس إلى العالم السفلي إلى فكرة ترمز للعاشق الذي يحاول استعادة حبيبته وتخليصها من براثن الهلاك لكنه يفقدها ويفقد نفسه في النهاية نتيجة تسرّعه وحرصه المفرط. 
    ُيذكر أن أسطورة اورفيـوس كانت عبر العصور المتعاقبة موضوعا للكثيـر من القصص والمسرحيـات وقصائد الشعر والأعمال التشكيلية والمعزوفات التي ألفها مشاهير الموسيقيين أمثال سترافينسكي و اوفنباخ وسواهما.

    السـفيـران 
    للفنان الألماني هانـز هـولبـين، 1533 


    غموض هذه اللوحة المشهورة كان وما يزال مثار جدل منذ أن ظهرت قبل خمسة قرون. 
    وإلى اليوم، ما تزال تستعصي على محاولات الفهم والتفسير. وقد ألّف عن اللوحة أكثر من كتاب لعلّ أهمّها كتاب سوزان فوستر ومارتن وايلد بعنوان سرّ السفيرين. 
    ويحسن في البداية إلقاء نظرة سريعة على تفاصيل اللوحة التي قد تعين على فهم بعض رموزها ودلالاتها. 
    هناك أوّلا الرجلان الواقفان إلى يمين ويسار اللوحة. كلا الرجلين كانا مقرّبين من الملك هنري الثامن ومن أصحاب الحظوة عنده. الفنّان نفسه كان رسّام البلاط. الرجل إلى اليسار هو جان دي دينتيفيل سفير فرنسا لدى انجلترا. والثاني إلى اليمين هو جورج دي سيلفا وهو راهب ورجل دين مرموق. وجها دي دينتيفيل ودي سيلفا يبدوان مألوفين. تنظر إليهما للحظات فيسهل عليك تذكّر ملامحهما وتعابير وجهيهما بعد حين. 
    الملاحظة الأخرى هي كثرة التفاصيل الدقيقة في اللوحة. ومن الواضح أن كلّ جزء وتفصيل فيها رُسم بواقعية شديدة لدرجة أنها لا تبدو مختلفة عن الصورة الفوتوغرافية. الأشياء التي تفصل بين الشخصيتين تمثّل رموز الآداب والمعارف التي كانت مزدهرة خلال عصر النهضة الأوربّية كالرياضيات والمنطق والموسيقى والهندسة والفلك والخطابة. 
    لباس الرجل إلى اليسار يبدو دنيويا خالصا، بينما يرتدي الرجل الآخر ثيابا لا تترك مجالا للشك في انتسابه إلى طبقة رجال الدين. طريقة وقوف الشخصين لافتة للانتباه. فهما يبدوان ساكنين وهادئين في مكانهما كما لو أنهما يتهيّأن لالتقاط الصور. 
    العناصر والأشياء التي تزدحم بها اللوحة كلّها ممّا يسترعي الاهتمام. سطح الطاولة العلوي مغطّى بسجّاد شرقي رُسمت خيوطه ببراعة نادرة. وعلى الطاولة أيضا أدوات رياضية وفلكية متعدّدة. يمكن أيضا رؤية آلة لتحديد الوقت وإسطرلاب وكرة تمثّل الأرض. وعلى الجزء السفلي من الطاولة نرى كتابين وكرة أخرى مجسّمة للأرض وآلات هندسية بالإضافة إلى آلة عود "أو لوت" بوتر مقطوع. الموزاييك على الأرضية يشبه ذلك الذي تُفرش به أرضيّات الكنائس. هناك أيضا الخلفية ذات الحرير الأخضر. وفي أقصى الزاوية العلوية اليسرى يظهر تمثال فضّي صغير يصوّر حادثة الصلب. 
    لكن اللوحة تخفي جسما غريبا لا يمكن تبيّنه بوضوح إلا عند النظر إليها جانبيا. هذا الجسم هو الجمجمة الظاهرة في منتصف الجزء السفلي وقد رُسمت بطريقة غريبة تبدو معها قريبة الشبه بالسمكة. 
    وهناك احتمال أن يكون الفنّان رسم الجمجمة بهذه الطريقة المشوّهة كي يصعب على الناظر تمييزها أو التعرّف عليها للوهلة الأولى ولكي يركّز الاهتمام، من ثمّ، على التفاصيل الأخرى للوحة. وربّما أراد الرسّام من خلال الجمجمة أن يصوّر حضور الموت في العالم وأن يقول إن كلّ هذه الثروة والأبّهة والفخامة والسلطة والعلوم لا يمكن أن تحجب الطبيعة الفانية للإنسان. في ذلك الوقت راجت بين الرسّامين الفكرة التي كانت تنقل الحضور البارد للموت إلى خلفية الحياة اليومية. وشيئا فشيئا تطوّرت الفكرة وأصبحت رمزا للحقيقة المختبئة وراء المظاهر السطحية للأشياء. 
    كان عصر النهضة بالنسبة للكثيرين عصر انبعاث العلوم وازدهار الحرّيات والفلسفة. وقد شاع وقتها توظيف المنهج الأرسطي الداعي إلى كشف البُنى الرياضية والفلسفية التي تكمن وراء الأحداث والظواهر المادّية. غير أن عصر النهضة شهد أيضا توتّرات وأحداثا مؤلمة أتى على ذكرها المؤرّخون. 
    والسياق التاريخي التي رُسمت فيه اللوحة يشير إلى أن الصراع كان على أشدّه بين هنري الثامن والكنيسة الكاثوليكية. ومن الأشياء التي يُحتمل أن تكون رمزا لذلك الصراع في اللوحة كتاب الترانيم المفتوح والعود ذو الوتر المقطوع الذي قد يكون رمزا لحالة الانقسام والخصومة التي كانت سائدة في ذلك الوقت. 
    وقد كان هذان السفيران يحاولان إصلاح ذات البين بين الملك والكنيسة للحيلولة دون أن يتطوّر الصراع إلى حرب على الأرض. 
    لكنْ كانت هناك صراعات أخرى بين انجلترا من جهة وبين غيرها من القوى الاستعمارية الكبرى من جهة أخرى. ولم يكن العالم الإسلامي نفسه بمنجاة من هذا الصراع كما قد توحي بذلك رمزية السجّاد الشرقي في اللوحة. 
    الأشياء والرموز المتقابلة التي تمتلئ بها اللوحة يمكن أن تكون مفتاحا لفهم الأسئلة أو التصوّرات التي أراد الرسّام طرحها من خلالها. فهو، مثلا، يضع الديني أو الروحي مقابل الدنيوي أو الزمني، والعقل مقابل الروح.. وهكذا. 
    هل يدعو الرسّام إلى الموازنة بين هذه العناصر؟ هل يلمّح إلى تناغم الدين مع رأس المال أو العكس؟ هل يشير إلى سيطرة المادّية على تفكير الإنسان؟ هل يريد التأكيد على أن الجوانب الروحانية أهمّ من خبرات الإنسان التي يكتسبها في الحياة؟ 
    لا جواب واضحا. الشيء الوحيد الواضح هو أن مضمون هذه اللوحة الغامض يفتح الباب واسعا أمام الكثير من التأويلات المختلفة والمتباينة. 
    قضى هانز هولبين معظم حياته في انجلترا ورسم أكثر لوحاته عندما كان يعمل في بلاط الملك. ومن أشهر لوحاته الأخرى البورتريه الذي رسمه للملك هنري الثامن وبورتريه آخر مشهور رسمه للمفكّر والسياسي البريطاني السير توماس مور. واللوحتان، بالإضافة إلى هذه اللوحة، هي اليوم من ضمن مقتنيات الناشيونال غاليري في لندن.
     التوقيع 
    " إذا كنت ترغب في التحدث معي عرف ما تقول وحدد قولك " فولتير
  6. #36
    صورة عضوية ReX
    ReX 
    ReX غير متصل حالياًعضو مميز جداً
    تاريخ الانضمام
    06/12/2009
    الجنس
    ذكر
    المشاركات
    7,671

    افتراضي

    على شاطئ البحر المتوسّط 
    للفنان الفرنسي هنـري ليبـاسـك، 1921

    بعض الرسّامين كانوا ملء السمع والبصر أثناء حياتهم، ولكن نادرا ما يتذكّرهم احد هذه الأيّام. وهنري ليباسك هو أحد هؤلاء. كان معاصرا وصديقا لكبار الفنّانين في زمانه مثل رينوار وبول سينياك وبيير بونار. كان يرسم اللون والضوء ويعبّر من خلال الرسم عن رؤيته الخفيفة والمرحة للحياة. 
    مناظر ليباسك تشي بحبّه للحياة والجمال والسلام الذي كان يسكن نفسه. تنظر إلى لوحاته فلا تجد فيها سوى صور لنساء منهمكات في أداء أعمالهنّ المنزلية أو في القراءة، أو صور لأطفال يعزفون الموسيقى أو يمشون على الشاطئ أو يقرءون أو يلهون. ولهذا السبب نالت أعماله إعجاب وثناء النقّاد والجمهور وكانت تُستقبل استقبالا حسنا. وعادة ما يلقبّه النقّاد برسّام السعادة. 
    نشأ الفنّان في بيئة ريفية. ولا بدّ وأنه عانى الكثير من الصعاب قبل أن يتحقّق حلمه بأن يصبح رسّاما. مواضيعه عبارة عن طبيعة وأزهار وحياة ساكنة وأشخاص. وكان مشهورا بأنه رسّام الريف وموانئ الشواطئ الفرنسية من النورماندي إلى كان وغيرهما. 
    وقد كان معروفا بتفرّده وبشخصيّته الحميمة وإحساسه العميق بالضوء واللون. وتأثّر بألوان الانطباعيين، وخاصّة بيسارو الذي زامله في المدرسة. 
    اكتشف ليباسك طبيعة جنوب فرنسا التي أقام فيها لفترة بعد أن سبقه إلى هناك سيزان ورينوار وفان غوخ وماتيس وبيكاسو. وقد نقل إلى لوحاته مشاهد لأشجار الزيتون والسماء الزرقاء والأسطح الحمراء وأزهار عبّاد الشمس ومزارع الكروم التي اشتهرت بها تلك النواحي. 
    في هذه اللوحة، رسم الفنّان اثنتين من بناته مع طفليهما وهم يستريحون على تلّة تطلّ على شاطئ البحر في إحدى القرى الهادئة في الجنوب الفرنسي. وقد استخدم ألوانا متناغمة وشفّافة تنمّ عن براعته في التلوين وفي توظيف الألوان والضوء. 
    ومن الملاحظ أن الرسّام اغفل في هذه اللوحة، كما في غيرها من أعماله، تفاصيل الوجوه والملامح. وقد كان من عادته استخدام هذا التكنيك، أي ترك شخوصه مجهولين وبلا ملامح، مقابل التركيز أكثر على تعبيرات الأطراف وحركات الأجساد. 
    ولد هنري ليباسك في شومبانييه في سبتمبر من عام 1865م. وفي عام 1885 ذهب إلى باريس ليدرس في معهد الفنون الجميلة. وقد تشكّلت رؤيته الفنّية بعد مخالطته لرسّامين أصغر منه سنّا مثل فويار وبيير بونار مؤسّس جماعة الأنبياء. 
    وفي مرحلة تالية تعرّف على كلّ من جورج سورا وبول سينياك وعرف منهما أهميّة نظرية الألوان. كما ربطته علاقة وثيقة مع ماتيس حيث كانا يشتركان في نفس الأفكار الفنّية والتطلّعات، وقد شارك الاثنان معا في تأسيس ما عُرف بصالون الخريف عام 1903م. 
    قضى الرسّام في الريفييرا الفرنسية حوالي ثلاثين عاما متنقّلا من بلدة لأخرى. وكان يرسم الحدائق والبيوت وضفاف الأنهار والشواطئ، أي تلك الأماكن التي اعتاد الجلوس أو العيش فيها. وشيئا فشيئا استطاع أن يطوّر أسلوبا خاصّا به يتّسم بالبساطة والتلقائية. 
    وقد جرّب النقطية والوحوشية عددا من السنوات. وكثيرا ما صُنّف كوحوشي بسبب صداقته الطويلة مع ماتيس. ثم اكتشف تيرنر وأسلوبه أثناء زيارة له إلى لندن. 
    توفّي هنري ليباسك في بلدة لو كانيه شمال كان في أغسطس من عام 1937م. وأعماله موجودة في المتاحف الفرنسية وفي غيرها من المتاحف العالمية في أمريكا واليابان ونيوزيلندا واسبانيا وغيرها. 

    ضـوء القـمـر 
    للفنان البولندي إيغـور ميتـوراج، 1986 


    ظلّ القمر حاضرا في وعي وذاكرة الإنسان منذ أقدم الأزمنة. وكان وما يزال يقوم بدور المرآة التي تعكس كلّ الأشياء الجميلة على الأرض. وقد تغنّى الشعراء والكتّاب والفلاسفة بالقمر منذ الأزل. وكان دائما مصدر إلهام لأشهر اللوحات والقصائد والأغاني. 
    في مقطع من قصيدة "الأرض اليباب" يقول تي إس إليوت: في هذه الحفرة المتغضّنة وسط الجبال، في ضوء القمر الخافت، يغنّي العشب فوق القبور الدارسة". ويقول شاعر آخر: الضوء الأخير غادر العالم. وحده ضوء القمر ينام فوق العشب وخلف ظلال الأشجار الطويلة". 
    وهناك حكمة قديمة تقول إن أجمل الوجوه هي تلك التي تُرى في ضوء القمر عندما يرى الإنسان نصف الأشياء بعينه ونصفها الآخر بخياله". 
    النحّات إيغور ميتوراج اختار أن يمثّل ضوء القمر بطريقة سوريالية عندما صوّره على هيئة وجه مكسور وساقط على العشب. الوجه يحمل ملامح الشخوص التي تصوّرها التماثيل الكلاسيكية القديمة من العصرين الروماني واليوناني. 
    في هذا العمل هناك إحساس واضح بالحداثة. لكنه يتضمّن أيضا إشارات إلى الجماليات الكلاسيكية التي أصبحت اليوم جزءا من الماضي. 
    يمكن أيضا ملاحظة أن أطراف وجه التمثال مكسورة أو متآكلة. وهي سمة تغلب على أعمال ميتوراج النحتية، وكأنه يذكّر بالتلف الذي لحق بالكثير من التماثيل الكلاسيكية بفعل مرور الزمن. 
    لكن لماذا هذه التسمية الغريبة، أي ضوء القمر؟ هناك أكثر من احتمال. وجه التمثال قد يكون وجه هيرميس إله النور في الأساطير القديمة الذي كان يلجأ إليه الناس عندما يحلّ الظلام كي يعيد لهم الضوء، الذي هو رمز للطريق أو الوجهة الصحيحة. 
    ويمكن أن يكون الفنّان أراد من خلال التمثال انتقاد الحضارة الحديثة والتحذير من أدوات الدمار التي أصبح أثرها لا يقتصر على الأرض فقط وإنما امتدّ ليشمل الفضاء والكواكب البعيدة. 
    وربّما أراد الإشارة إلى تضاؤل اهتمام الناس اليوم بالأساطير القديمة التي تتحدّث عن الظواهر الطبيعية ومن ثمّ ضعف ارتباطهم بالقوى العلوية أو الغيبية. 
    بعض الشعوب القديمة كانت تعبد القمر وترى في ضوئه الأنيس الذي يخفّف الإحساس بالخوف من الليل والظلام والمجهول. والشعوب الشرقية القديمة كالصينيين واليابانيين كانوا يرون في اكتمال ضوء القمر متعة جمالية وروحية تستحقّ أن تُقام من اجلها الطقوس والاحتفالات. ولم يكن مستغربا أن تُنسب أجمل قصيدة عن القمر لشاعر صيني، وأن يكون أشهر من رسم ضوء القمر رسّام ياباني. 
    اُقيم هذا التمثال على أرضية احد المنتزهات في ولاية ميشيغان الأمريكية. والمنتزه يضمّ مجموعة من الأعمال النحتية، بعضها لنحّاتين مشهورين مثل هنري مور ورودان واولدنبيرغ. وقد انشيء المنتزه في القرن التاسع عشر، وهو يضمّ جداول وشلالات ومروجا بالإضافة إلى عدد لا يُحصى من النباتات والأشجار. 
    في العصر الحديث أصبح منظر ضوء القمر يرمز للفقد أو الغياب وأحيانا للتأمّل والحنين. وهذه الأفكار والمشاعر نجد لها صدى في موسيقى بيتهوفن وشوبان وديبوسي وفي لوحات بعض الرسّامين المعاصرين مثل ويسلر وفان غوخ وإدفارد مونك. 
    إيغور ميتوراج ولد في ألمانيا لعائلة من أصول بولندية. وقد درس الرسم في وارسو وباريس. وفي ما بعد، وتحت تأثير افتتانه بالفنّ والثقافة اللاتينية، ذهب إلى ايطاليا. وهناك قرّر أن يترك الرسم ويمتهن النحت. وميتوراج يُعتبر اليوم من أبرز وأشهر الفنّانين البولنديين المعاصرين. ومنحوتاته موجودة في العديد من المتاحف والمؤسّسات الفنّية وصالات ومكاتب بعض أشهر الشركات العالمية. 
    وهو يصنع منحوتاته من الرخام والبرونز غالبا. ودائما ما تظهر على شخوصه آثار التلف أو الدمار، فيبدو بعضها برؤوس مكسورة أو وجوه تلّفها الضمادات أو جذوع متصدّعة، بينما يظهر البعض الآخر بلا أيد أو أطراف. 
    منحوتات ميتوراج، بأطرافها المبتورة وقطعها المتشظّية، قد تكون أكثر من مجرّد محاولة لتشريح الماضي. وربّما يكون لها ارتباط بالتجارب والانفعالات الشخصية للفنّان. وهناك احتمال آخر بأن تكون مظاهر التآكل والتلف فيها تعبيرا عن زمن وجودي أكثر منه تاريخي. 
    ومن أشهر أعماله الأخرى تمثال لـ ايروس إله الحبّ يظهر فيه معصوب العينين ولا يحمل سهماً كما جرت العادة، في إشارة إلى أن الحبّ أعمى ويختار ضحاياه بطريقة عشوائية.

    نبـوءات حـافــظ
    للفنان الإيراني إيمـان مـالكــي، 2003


    لشدّة واقعية هذه اللوحة ووضوح ودقّة تفاصيلها، قد يظنّها الناظر لأوّل وهلة صورة فوتوغرافية.
    وهذه النقطة ربّما تثير بعض الإشكالات والتساؤلات. لكن لا بدّ أولا من قراءة اللوحة والمرور سريعا على بعض تفاصيلها.
    في اللوحة نرى شقيقتين تجلسان في شرفة منزلهما المطلّ على منظر حضري.
    الكبرى تمسك بنسخة من ديوان حافظ الشيرازي بينما راحت الصغرى تحدّق فيها بانتظار ما ستقرؤه من شعر.
    وباستثناء السماء الممتدّة التي يختلط فيها الغبار بالغيم، لا توجد في الخلفية الكثير من التفاصيل ما عدا بعض الأشجار والبنايات التي تلوح من بعيد.
    وقد يكون الفنان أراد من وراء الاقتصاد في رسم الخلفية تركيز انتباه الناظر إلى الموضوع الأساسي؛ أي الفتاتين والجوّ الذي يوحي به الحوار في ما بينهما بشأن الكتاب.
    المشهد فيه إحساس حالم وقدر غير قليل من الرومانسية. والتعابير البادية على ملامح الفتاتين هي مزيج من الحزن والترقّب.
    بالنسبة للإيرانيين، فإن حافظ الشيرازي ليس مجرّد شاعر فحسب، بل هو جزء لا يتجزّأ من الروح الإيرانية نفسها. وربّما لا يضاهيه شهرة وذيوعا سوى عمر الخيّام.
    وقد بلغ من شعبية حافظ وتعلّق الناس بأشعاره أنهم يسمّونه ترجمان الأشواق ولسان الغيب، في إشارة إلى قدرته على التنبّؤ بالمستقبل وكشف الحُجُب واستشراف المجهول.
    ولا يخلو بيت في إيران من نسخة من ديوانه. وقد اعتاد الناس في مناسباتهم الاجتماعية والروحية على استنطاق الديوان لمساعدتهم في معرفة ما سيحمله لهم المستقبل من أحداث سارّة أو محزنة. ويحدث أن يفتح الشخص صفحة من الكتاب بطريقة عشوائية ثم يقرأ ما هو مكتوب فيها بصوت مسموع. وبذا يستطيع، بمساعدة الشروحات والهوامش المرفقة، قراءة طالعه ومعرفة ما يخبّئه له المستقبل.
    ولأن أمور الحبّ والزواج، والمسائل العاطفية عموما، تشغل بال المرأة أكثر من الرجل عادة، فإن النساء هنّ الأكثر إقبالا على قراءة تنبّؤات حافظ وتصديقها باعتبارها معجزات وكرامات.
    من الأشياء اللافتة في اللوحة ارتداء الفتاة الكبرى ملابس تقليدية محافظة إلى حدّ ما. كما أنها تلبس خاتم الخطوبة، وهذا تفصيل لا يخلو من دلالة. وثمّة احتمال بأن ما يشغلها أمر قد يكون له علاقة بالمسائل العاطفية من حبّ وزواج وخلافه.
    ومن حيث الهيئة، تبدو الفتاة الصغرى أكثر انطلاقا وتحرّرا بدليل بنطلون الجينز الأزرق الذي ترتديه والذي برع الفنان في تصوير تفاصيله وخيوطه الدقيقة.
    والحقيقة أن كلّ ما في هذه اللوحة واقعي بامتياز. وهي تذكّر إلى حدّ كبير بلوحات فيرمير و بوغورو.
    الألوان الباردة والمتناسقة هي أحد ملامح الجمال والجاذبية في اللوحة. كما أن أسلوب الفنان في رسم السجّاد والملابس ووضعية الفتاتين وملامحهما التي لا تخلو من طهرانية، كل ذلك يخلع على المشهد إحساسا بالبراءة والقداسة. وممّا يعزّز هذا الإحساس طريقة وقوف الفتاة الكبرى وانحناءتها الصامتة والمتأمّلة التي اختار لها الرسّام خلفية كاملة من السماء والغيم.
    ولا بدّ للناظر إلى هذه اللوحة أن يتخيّل أن الفنان، وهو يرسم، كان يحاول النفاذ إلى العالم الداخلي والخاص لفتاتين تعمر قلبيهما الكثير من الأحلام والتطلّعات. وقد نجح في تصوير مزاجيهما وروحيهما الشابّة من خلال هذا المنظر الأثيري البديع الذي يمتزج فيه الحلم والبراءة بالجمال المتسامي والمثالي.
    في الآونة الأخيرة ازداد الاهتمام برسومات إيمان مالكي وانتشرت لوحاته على نطاق واسع وأصبح اسما معروفا في الأوساط الفنية العالمية. ومؤخّرا نال جائزة بوغورو الفرنسية بالنظر إلى التشابه الكبير بين أسلوب الرسّامَين الإيراني والفرنسي.
    الجدير بالذكر أن مالكي تتلمذ على يد الفنان الكبير مرتضى كاتوزيان كما درس في كلية الفنون بطهران ومنذ صغره كان يبدي اهتماما واضحا بالرسم.
    ومالكي يعتبر الأخير في سلسلة أسماء الرسّامين الإيرانيين الذين نالوا شهرة عالمية، مثل محمود فرشجيان وفريدون رسولي وكاتوزيان وسواهم.
    أسلوب مالكي أعاد إلى الواجهة جدلا قديما حول "أصالة" الأعمال التشكيلية الشديدة الواقعية.
    فبعض النقّاد يرى أنها تفتقر إلى الروح والتلقائية وأن لا فرق بينها وبين التصوير الفوتوغرافي الذي ينقل الواقع كما هو وبطريقة كربونية.
    كما يرى هؤلاء بأن ما يسمّى "تأثير الكاميرا" يكبّل الفنان ويشلّ مخيّلته ويحرمه من التحليق في فضاء الخلق والإبداع الحقيقي.
    لكن هناك فريقا آخر يرى بأن الرسومات التشكيلية الواقعية تتوفّر هي أيضا على الكثير من عناصر الإبداع والمتعة، وأن اللجوء إلى الكاميرا أحيانا لا يعدّ أمرا سيئا. "فيرمير" فعل شيئا مثل هذا من قبل بتوظيفه تقنية الغرفة المظلمة وأنتج أعمالا لا يختلف الناس اليوم حول تميّزها وغناها من حيث الشكل والمضمون.
    وأيّا ما كان الأمر، يمكن القول إن ألوان مالكي الناعمة ومناظره الحالمة وملامح شخوصه القريبة من القلب تشكّل متعة حقيقية للعين. وإحدى سمات الفنّ الناجح هو انه يوفّر المتعة ويبعث في نفس ووجدان المتلقي إحساسا بالارتياح والبهجة والطمأنينة.
     التوقيع 
    " إذا كنت ترغب في التحدث معي عرف ما تقول وحدد قولك " فولتير
  7. #37
    صورة عضوية ReX
    ReX 
    ReX غير متصل حالياًعضو مميز جداً
    تاريخ الانضمام
    06/12/2009
    الجنس
    ذكر
    المشاركات
    7,671

    افتراضي

    باني ثاني أو موناليزا الهندية 
    القـرن الثامـن عشـر 


    هذه اللوحة – المنمنمة تعتبر أشهر لوحة في الهند. وهناك من يعتبرها علامة فارقة وأيقونة للفنّ الهندي في جميع العصور. وبعض النقاد يصفها بأنها "موناليزا الهندية". 
    وما يزال الفنانون الهنود إلى اليوم يرسمون نسخا منها، تماما مثلما كانت في زمانها مصدر إلهام للشعراء والفنانين. 
    المنمنمة رسمها فنان ظلّ اسمه مجهولا، وهي تصوّر امرأة اسمها "رادها" لكنها أصبحت تسمّى في ما بعد "باني ثاني" الذي يعني المرأة الأنيقة والذكيّة. 
    كانت المرأة خليلة ثمّ زوجة لأحد مهراجات ولاية راجيستان في القرن الثامن عشر. وكان المهراجا قد رآها أولّ الأمر في بيت زوجة والده فراعه جمالها وأعجب بأدبها وذكائها وما لبث أن وقع في حبّها بعد أن اكتشف أنها مثله تهوى الغناء والشعر والأدب. 
    وقد كتب زوجها الكثير من القصائد التي يمتدح فيها المرأة ويثني على أدبها وجمالها. كما كان جمالها مصدر افتتان للرجال والنساء في ذلك الزمان، واستلهم الفنانون في رسوماتهم ملامح وجهها في أعمالهم. بل لقد وصل الأمر ببعضهم أن استعار ملامحها ليضعها على وجه "كريشنا" كبير الآلهة الهندوسية. 
    ويبدو أن ملامح هذه المرأة تضاهي الأوصاف التي تتضمّنها قصائد الحبّ المكتوبة بالسنسكريتية والتي تصف جمال الأنثى بطريقة مثالية. 
    في اللوحة تبدو "رادها" بوجه طويل وحاجبين مقوّسين وعينين حالمتين وأنف حادّ مستطيل وشفتين رقيقتين. وهي هنا ترتدي الساري وتمسك بزهرة لوتس وقد ازدان فستانها البرّاق باللآليء والحجارة الثمينة. 
    اشتهرت المنمنمات الهندية بخاصّيتها الغنائية التي تبهج العقل والقلب، وبألوانها الجميلة المستمدّة من المعادن والحجارة الثمينة والذهب والفضّة. 
    ويعود تاريخ ظهور المنمنمات في الهند إلى بدايات القرن السادس عشر الميلادي. لكنها شهدت ازدهارا كبيرا في عصر أباطرة المغول المسلمين الذين مزجوا فيها بين الأساليب المحلية والفارسية. 
    وكان سلاطين المغول يحرصون على أن تعكس المنمنمات فخامة حياتهم وأمجادهم وانتصاراتهم الشخصية. 
    وعادة ما تعتمد مواضيع المنمنمات على ما ترويه المخطوطات القديمة وكتب الأدب الكلاسيكي البوذي والهندوسي. كما يعتمد البعض الآخر على مواضيع وأفكار مستوحاة من صميم الحياة اليومية كالحبّ والتسامح والتضحية.. إلى آخره. 
    والكثير من المنمنمات تضمّ صورا ورسومات لغزلان وحمام وأشجار وطواويس وجبال وأنهار وغيم وغيرها من صور الكائنات وعناصر الطبيعة. 
    يقال إن اللون الذهبي المستخدم في تزيين هذه المنمنمة مأخوذ من الذهب الخالص بعد إذابته. وفي هذا إشارة إلى سطوة الحبّ الذي كان يتملّك قلب المهراجا تجاه زوجته ونوعية الحياة المترفة التي كان يعيشها مهراجات الهنود في ذلك الوقت. 
    بالنسبة للزوجين العاشقين، تقول المصادر التاريخية أنهما عاشا حياة هانئة وسعيدة، وعندما أحسّا بتقدّم العمر انسحبا من الحياة العامّة وانزويا في قصرهما بعيدا عن الأنظار وتفرّغا لنظم الأشعار وأداء الأغاني التعبّدية والتراتيل الدينية. 
    المنمنمات الهندية ظلت تتمتّع دائما بجاذبية عالمية، وينظر إليها الكثيرون على أنها تمثّل الروح الحقيقية للحضارة الهندية. 
    ويوجد اليوم الكثير من هذه الأعمال في أشهر المتاحف العالمية ويباع بعضها في المزادات بأسعار باهظة وأحيانا خيالية.


    منظـر للغسَـق مع ضـوء قمـر واهـن 
    للفنان الروسي إيـسـاك ليفـيتـان، 1899 


    يعتبر ايساك ليفيتان احد أعظم رسّامي الطبيعة الروس. ولوحاته تتميّز بسحرها وشاعريّتها. كما أنها تثير الحزن أو التأمّل من خلال تصويرها للطبيعة الرعوية التي تخلو غالبا من حضور الإنسان. 
    كان ليفيتان يحبّ الطبيعة ويقدّرها كثيرا. ولوحاته لا تخلو من صور لجسور وأديرة وقوارب وممرّات تقود الناظر إلى شطآن ذهبية بعيدة. 
    وقد اكتشف الفنّان سحر الطبيعة الروسية ورسمها وصوّر جمال الأنهار والشواطئ وأحزان الخريف ونداءات الربيع الغامضة. وسجّل كلّ هذا بطريقة لا تختلف كثيرا عمّا كتبه شعراء وكتّاب روسيا الكبار أمثال بوشكين وتورغينيف وغوغول، وهو ما اكسب لوحاته جاذبيّة عالمية. 
    في هذه اللوحة الجميلة يرسم ايساك ليفيتان صورة للطبيعة وقت الغسق وتحت ضوء قمر خافت. وفي اللوحة يظهر بوضوح تأثّر الرسّام بالأسلوب الانطباعي من خلال الفرشاة الديناميكية والألوان الساطعة والمتوهّجة. وقد رسم اللوحة بعد عودته من باريس التي اكتشف فيها عالم الانطباعيين. 
    أضواء المساء، وأحيانا أضواء الصباح الباكر، هي احد الموتيفات التي ظلّ ليفيتان يرسمها باستمرار. وكثرة الأضواء في لوحاته ربّما تشي بأنه كان إنسانا سعيدا بالرغم من حياته القصيرة. 
    كان ليفيتان يؤمن بأن الإنسان خُلق من اجل الطبيعة، وليس العكس. وقد كان ميّالا إلى مزج جمال الطبيعة بالمشاعر المتناقضة التي تعتري روح الإنسان. 
    وبعض لوحاته لا تخلو من مناظر لقرى مبعثرة وسط التلال وحقول محروثة وغيوم بيضاء منخفضة تثير إحساسا بالسلام والطمأنينة وتشعِر الناظر برحابة الطبيعة وضآلة الإنسان وسط مساحات الماء الأزرق الذي يغمر كلّ شيء. 
    كان ليفيتان دائم البحث عن إجابات لتأمّلاته وتساؤلاته الفلسفية العميقة حول معنى الوجود الإنساني والقدَر ومكان الإنسان في العالم. وبعض لوحاته تنطوي على رمزية ما. في إحداها، يرسم جزيرة صغيرة بين السماء والماء تتعرّض للرياح من جميع الاتجاهات، بينما تظهر مقبرة مهجورة وكنيسة تبدو في نافذتها شمعة تجاهد للبقاء مشتعلة. 
    كان الرسّام دائم التردّد على منطقة الفولغا التي اعتاد أن يقضي فيها فصلي الربيع والصيف من كلّ عام. هناك أمكن لموهبته أن تنمو بسبب الفراغات الكبيرة التي يفيض فيها النهر، ما ألهمه رسم مناظر معبّرة ومملوءة بمشاعر الضوء والفرح. تنظر إلى بعض تلك الصور فتشعر بقوّة الريح التي تدفع الغيوم في السماء وتعبث بماء النهر. 
    عانى الفنّان من الفقر والحرمان معظم حياته. وجرّب مرارة اليُتم عندما توفّي والده وأمّه وهو بعد في سنّ صغيرة. لكنه اظهر منذ الصغر ميلا قويّا للرسم فدخل كلّية موسكو للفنون الجميلة ودرس على يد فاسيلي بيروف. وفي ما بعد طوّر أسلوبه الخاصّ في الرسم. وقد ربطته بالكاتب انطوان تشيكوف علاقة صداقة استمرّت حتى وفاة الثاني. 
    عانى ليفيتان من مرض القلب ومات قبل أن يكمل عامه الأربعين ولم يترك وراءه زوجة أو أطفالا. وإنفاذا لوصيّته، دُفن إلى جوار ضريح تشيكوف. وكان قد مُنح قبيل وفاته لقب أستاذ من أكاديمية سانت بيترسبيرغ. 
    وبعض لوحاته هي اليوم من ضمن مقتنيات متحف تريتياكوف، بينما يستقرّ عدد من لوحاته الأخرى في منزله على ضفاف نهر الفولغا والذي تمّ تحويله في ما بعد إلى متحف يحمل اسمه.
     التوقيع 
    " إذا كنت ترغب في التحدث معي عرف ما تقول وحدد قولك " فولتير
  8. #38
    صورة عضوية ReX
    ReX 
    ReX غير متصل حالياًعضو مميز جداً
    تاريخ الانضمام
    06/12/2009
    الجنس
    ذكر
    المشاركات
    7,671

    افتراضي

    نقطـة التـقـاء 
    للفنان الأمريكي جاكسـون بـولـوك، 1952 


    يقال أن الفنّ يأتي أحيانا من أماكن بعيدة وخفيّة في أعماق النفس. لذا تصبح الكلمات والأفكار التي تحاول تفسيره أو فهمه غير ذات قيمة أو أهمّية. بل إن محاولات التفسير والفهم يمكن أحيانا أن تثقل العمل الفنّي وتجرّده من جماله وخصوصيّته وغموضه. 
    هذا الكلام ينطبق تماما على لوحات جاكسون بولوك وما تثيره في النفس من دهشة وحيرة. ومبعث الحيرة هنا يكمن في انك لا تستطيع وصف لوحاته ولا اكتشاف ما أودعه فيها من معانٍ ورسائل ورموز. حركات مشوّشة؟ طاقة فيزيائية زائدة؟ رسائل خفيّة؟ لا شيء واضح على وجه التحديد. 
    البعض لا يجد لوحات بولوك باعثة على السرور أو المتعة. والبعض الآخر يراها تجلب الدوار وتربك الذهن. وهناك من يقول، على سبيل السخرية والمبالغة، أن أيّ طفل بمقدوره أن يرسم مثلها. 
    ومع ذلك، فـ جاكسون بولوك يُعتبر اليوم احد أشهر الرسّامين في العالم ومن أكثرهم أصالة وتأثيرا. إحدى لوحاته ابتاعها عام 2006 رجل أعمال مكسيكي بمبلغ مائة وأربعين مليون دولار أمريكي، ما جعلها تتصدّر قائمة اللوحات الأغلى في العالم في ذلك الوقت. 
    ودائما، كان هناك من ينظر إلى لوحاته محاولا اكتشاف أنماطها وزخارفها الجميلة والمشاعر الدفينة التي قد تكون مخبّأة بين ثنايا خيوطها وأشكالها وألوانها الكثيرة. 
    كان جاكسون بولوك واحدا من مجموعة من الرسّامين الذين ابتكروا أسلوبا جديدا في الرسم يمزج ما بين التجريد والتعبيرية. 
    لم يكن هؤلاء يرسمون أشياء مألوفة في لوحاتهم كالطبيعة والأشخاص أو الحياة الصامتة، بل فضّلوا بدلا من ذلك التعبير عن انفعالاتهم من خلال توظيف عناصر الرسم نفسها كالألوان والأشكال والأضواء والظلال والخطوط وما إلى ذلك. 
    وقد تأثّر بولوك وزملاؤه بأنماط الفنّ الأفريقي وبرسومات الكهوف وفنون سكّان أمريكا الأصليين. 
    كانت الظروف التي نتجت عن الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية لأوّل مرّة في تاريخ البشرية، سببا في انتشار حالة من الحيرة والتشاؤم والشكّ بشأن مستقبل ومصير البشر. وكان هذا من بين العوامل المهمّة التي دفعت بولوك وأقرانه إلى التامّل في الواقع والنظر إلى الأشياء بشكل مختلف. 
    كان هؤلاء يؤمنون بأن الفنّ التقليدي لم يعد قادرا على توصيل انفعالاتهم ومشاعرهم بما فيه الكفاية. لذا بدءوا في البحث عن شكل فنّي أفضل يمكنهم من خلاله أن يعبّروا عمّا بدواخلهم من مشاعر مضطربة وهواجس مؤرّقة. 
    وقد فتح التجريد أمام الناس آفاقا واسعة وعلّمهم أن يؤمنوا بحرّية الفنّ دون أن يركنوا إلى الأفكار والأساليب الجاهزة مسبقا. 
    على أن إحدى أهمّ مميّزات الرسم التجريدي هو انه يمكن أن يوجد في كل زمن وجيل كشكل معاصر من أشكال الرسم. بمعنى انه لا يتقادم مع مرور الزمن ولا يبلى بفعل توالي الأساليب والأنساق الفنية والمدارس التشكيلية. 
    لوحة بولوك هنا عبارة عن فوضى عارمة من الألوان الصفراء والبرتقالية والبيضاء. هذه الألوان يبدو كما لو أنها تنبثق من الخلفية المظلمة للوحة وتتلاقى أو تتقاطع من خلال الضربات التي تكوّن سلسلة من الخطوط والأشكال والظلال التي يعلو بعضها بعضا. 
    بعض النقّاد وعلماء النفس يقولون عن حالات الانفعال التي يتعذّر تفسيرها أو فهمها أنها أعراض تشوّش وحيرة وارتباك. 
    هذا الكلام يكتسب مصداقية خاصّة عند النظر إلى السياق الزماني والمكاني الذي أنتج ظاهرة جاكسون بولوك. فعندما رسم الفنّان أعماله، ومن بينها هذه اللوحة، كانت أمريكا ما تزال تعاني من آثار ونتائج الحرب العالمية الثانية وإرهاصات الحرب الباردة وما رافقها من حملات هستيرية ضدّ الشيوعية والمعسكر الاشتراكي. 
    كان الفنّانون في ذلك الوقت يراقبون ما يحدث بوجوم وغضب، خاصّة بعد أن تبيّن لهم أن آمالهم وأحلامهم بمستقبل أفضل للبشرية قد تدمّرت ووئدت بفعل جنون الحرب وتهوّر القادة السياسيين. لذا أرادوا من خلال التجريد استبدال العالم القديم الآيل للسقوط بعالم آخر جديد يمكن أن يحتضن تطلّعاتهم ويحقّق أحلامهم بغد أكثر سلاما وأقلّ عنفا. 
    هذه اللوحة يمكن أن يكون لها معنى ما في واقع الحياة. وربّما يكون معناها كامنا تحت الطبقات المتعدّدة والكثيفة من الألوان والأشكال التي يُفترض أنها انعكاس لإسقاطات قويّة وانفعالات جامحة. 
    وبرغم غموض اللوحة، إلا أنها تجذب العين بألوانها البديعة والمتناغمة. يبدو خيال الفنان هنا متحرّرا ومنطلقا بلا حدود. ويمكننا أن نتخيّل بولوك وهو يصبّ الطلاء أو يرشّه عشوائيا، ثم يرسم دائرة إثر دائرة ويبني حولها طبقات فوق طبقات من اللون بينما يستخدم أصابعه لتذويب ونشر الطلاء فوق مساحة اللوحة الكبيرة. 
    ويقال إن الرسّام كان يستخدم السكاكين والعصيّ ويمزج الرمل بقطع الخشب والزجاج المكسور وغيرها من الأشياء الغريبة كي يمنح مناظره نسيجا ثقيلا ومتماسكا. 
    في بداياته، تعرّف جاكسون بولوك على الفلسفات الشرقية والأفكار الثيوصوفية. وكان قبل ذلك شخصا لا دينيا. لكن علاقته بالمعلّم الروحاني الهنديّ المشهور جيدو كريشنامورتي فتحت أمامه الباب واسعا لتعلّم الأفكار والمفاهيم الروحية المعاصرة. 
    في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، توقّف بولوك عن اختيار عناوين للوحاته واستبدلها بأرقام، في محاولة لتحريض المتلقّي للدخول مباشرة إلى أجواء اللوحة وصرف انتباهه عن أيّ ارتباطات أو تصوّرات مسبقة قد يوحي بها العنوان. 
    كان جاكسون بولوك يؤمن بأن الرسّام لا يلزمه أن يتمتّع بمهارات تقنية خاصّة وأن كل إنسان مهيّأ لأن يصبح رسّاما على طريقته. 
    والمعروف أنه جرّب في بداياته حياة التشرّد والفقر. ولم تحقّق لوحاته النجاح والشهرة إلا في المراحل الأخيرة من حياته. وقد دعمه بعض النقّاد بينما سخر منه آخرون. وفي الستّينات اختير كأهمّ رسّام لأهمّ حركة فنّية أمريكية ظهرت في القرن الماضي. ويقال إنه بفضل بولوك وزميله الآخر مارك روثكو وغيرهما من رموز التجريدية الأمريكية، أصبحت نيويورك تحتلّ مكانة باريس في كونها الحاضنة الأولى للفنّ الطليعي في العالم. غير أن حياته الخاصّة لم تكن سعيدة أو سهلة. فقد عانى كثيرا من نوبات الاكتئاب والإدمان على الكحول والتدخين بشراهة. وفي آخر سنواته أصبح عاجزا ومشوّش الذهن، وبدا كما لو انه غير قادر على مواجهة أعباء وضغوط الحياة. وفي صيف عام 1956 قُتل جاكسون بولوك في حادث سيّارة عن عمر لا يتجاوز الرابعة والأربعين. وقد أسهم موته المأساوي وهو في سنّ مبكّرة في إضفاء طابع أسطوري على شخصيّته وفنّه.

    بدايـة زائفـة 
    للفنان الأمريكي جاسبـر جونـز، 1959 


    أهمّية هذه اللوحة تكمن في أنها أغلى لوحة في العالم لرسّام ما يزال على قيد الحياة. ففي العام 2006 اشترى اللوحة كل من آن وكينيث غريفين، وهما صاحبا إحدى المجموعات الفنّية الأمريكية الخاصّة، بمبلغ ثمانين مليون دولار. 
    وكانت اللوحة قد بيعت قبل خمسين عاما إلى احد جامعي اللوحات الفنّية بمبلغ ثلاثة آلاف دولار فقط. وبعد ذلك بسنوات ابتاعها احد أصحاب الشركات النفطية بمبلغ من ستّة أصفار. 
    جاسبر جونز يُنظر إليه اليوم كأحد أهمّ الفنّانين الأمريكيين الذين ظهروا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. والنقّاد يصنّفون لوحته هذه ضمن الجيل الثاني من مدرسة التعبير التجريدي في الولايات المتحدة. وهي عبارة عن حقل من البقع والممرّات المتشابكة من الأحمر والأصفر والأزرق والبرتقالي والبنّي. ويُلاحظ أن الرسّام حرص على أن تتضمّن اللوحة أسماء الألوان التي استخدمها في رسمها. 
    وأحد العناصر الغامضة في اللوحة يتعلّق بالاسم الغريب الذي اختاره لها الرسّام. ترى هل كان يقصد انه رسم اللوحة في غير أوانها مثلا؟ أم أن المقصود أنه بدأ رسمها من مكان، في حين انه كان يُفترض أنه بدأها من مكان آخر؟ 
    لكن أيّا كان السبب، فإن ممّا لا شكّ فيه أن هذه اللوحة ذات الألوان المشتعلة أثارت إعجاب الناس منذ ظهورها الأوّل. 
    وما يميّزها هو هذا التوظيف المبهر لهذا العدد الكبير من الألوان المبهرجة والساطعة فيها. 
    بعض نقّاد الرسم الحديث اعتبرها عملا ايقونيا. والبعض الآخر رأى فيها مثالا للكمال. ويُعزى الفضل لهذه اللوحة بالذات في أن جاسبر جونز أصبح فنّانا مشهورا وذا شعبية كبيرة. وهناك من يصنّف لوحاته على أنها نوع من الداديّة الجديدة. وكان معروفا بميله إلى استخدام صور من الثقافة الشعبية في معظم أعماله. 
    ولد جاسبر جونز عام 1930 في جورجيا بالولايات المتحدة. وفي ما بعد درس الفنّ في جامعة ساوث كارولينا ثم عمل في إحدى مكتبات نيويورك. وقد لمع نجمه في بدايات خمسينات القرن الماضي عندما أقام معرضين منفردين لأعماله في كلّ من نيويورك وباريس. 
    ويقال إن جونز هو الذي وضع الأساس للبوب آرت وما يعرف بـ التقليلية، أي ذلك النوع من الرسم الذي يُعنى بإظهار اقلّ العناصر والتفاصيل. وكان من بين من تعرّف عليهم الرسّام كلّ من مارسيل دُوشان وآندي وارهول وروبرت روشنبيرغ. 
    كان لـ جاسبر جونز تأثير كبير على الفنّ الأمريكي بشكل عام. ولوحاته تتّسم بالغموض والبساطة والتناقض في نفس الوقت. وكثيرا ما كان يستعير صورا من رسّامين آخرين ليضمّنها لوحاته. والغريب أن هذا لم يؤدّ إلا إلى تأكيد أصالة رؤاه الفنية، بحسب ما يذهب بعض النقّاد. و تكثر في لوحاته صور لأرقام وأعلام وأحرف ومساطر وخرائط. كما دأب على استخدام الورق والقماش والزجاج والخشب وغيرها من الوسائط الأخرى للتعبير عن أفكاره. 
    ويقال إن جونز تأثّر كثيرا في لوحاته بكتابات الفيلسوف النمساوي لودفيك ويتغنستين التي أعانته في محاولته فهم طبيعة المنطق الذي يربط بين الأشياء. وفي سبعينات القرن الماضي تعرّف إلى الكاتب الايرلندي المشهور سامويل بيكيت ووضع عدّة رسومات لكتاب الأخير بعنوان "إخفاقات". وقد تعامل جونز مع لغة بيكيت المكثّفة برسم سلسلة من الكلمات المتشابكة والغامضة. 
    وفي أعماله الأخيرة وثّق الرسّام جوانب من سنوات طفولته وصباه من خلال دمج صور لأفراد عائلته في لوحاته، في محاولة لاستعادة ذكريات وتجارب الماضي. وقد نُقل عنه ذات مرّة قوله إن كلّ ما يرسمه له ارتباط ما بسنوات طفولته المبكّرة. 
    وفي الوقت الذي ترتفع فيه أسعار لوحات جونز إلى أرقام قياسية، فإن معاني صوره ما تزال موضوعا للكثير من الجدل والنقاش. كما أنها كثيرا ما أثارت غضب وثناء النقّاد في آن واحد. وعندما سُئل في إحدى المناسبات عن معاني لوحاته قال: قد لا يكون هناك معنى. والمعنى قد يكون كامنا في عملية الرسم نفسها. وربّما لا يتجاوز المعنى حقيقة أن هناك لوحة". 
    جاسبر جونز يحتلّ اليوم المرتبة الثلاثين في قائمة الرسّامين الأغلى مبيعاً في العالم. وقبل حوالي عشر سوات، اشترى متحف المتروبوليتان بـ نيويورك لوحته بعنوان العلَم الأبيض مقابل أكثر من عشرين مليون دولار أمريكي.
     التوقيع 
    " إذا كنت ترغب في التحدث معي عرف ما تقول وحدد قولك " فولتير
  9. #39
    صورة عضوية ReX
    ReX 
    ReX غير متصل حالياًعضو مميز جداً
    تاريخ الانضمام
    06/12/2009
    الجنس
    ذكر
    المشاركات
    7,671

    افتراضي

    الحقـل المحـروث 
    للفنان الاسباني خـوان مِيـرو، 1924 


    كان خوان ميرو احد أشهر الرسّامين السورياليين والتجريديين الإسبان في القرن العشرين. وقد عُرف بمشاهده ذات الطبيعة الطفولية والحالمة التي تتفجّر بالألوان والأشكال الجميلة. 
    وقد اختار أن يرسم هنا منظرا للمزرعة التي كانت تمتلكها عائلته في مقاطعة كاتالونيا. وعنوان اللوحة هو استعارة شعرية أراد ميرو من خلالها أن يعبّر عن نظرته المثالية لوطنه. 
    الجمال والفانتازيا اللذان يميّزان لوحات ميرو لا ينتميان لعالم الواقع. غير انه كان يجد دائما الإلهام في حبّه العميق لاسبانيا كما يبدو واضحا في بعض لوحاته المهمّة ومنها هذه اللوحة. 
    الأيقونات في هذا العمل كثيرة ومعقّدة. وقد اعتمد فيها على مصادر شتّى. وهي شهادة على اهتمام الرسّام بميراثه الفنّي الطويل. 
    الألوان الباردة والمتباينة تذكّر بألوان الجداريات الرومانية. 
    والحيوانات المتعدّدة الألوان استلهمها من أسلوب التطريز الاسباني في القرون الوسطى والذي وجد طريقه في ما بعد إلى أعمال السيراميك التي كان ميرو يجمعها ويحتفظ ببعضها في محترفه. 
    وبعض الأشكال الأخرى في الصورة استوحاها من رسومات كهوف ما قبل التاريخ التي رآها في بعض أنحاء اسبانيا. 
    العين التي تظهر في أعلى الشجرة الكبيرة إلى اليمين لها أصل في الفنّ المسيحي القديم. إذ جرت العادة أن تُرسم أجنحة الملائكة بحيث تتخلّلها عيون صغيرة وكثيرة. هذه العين، مع الأذن الكبيرة المثبّتة بجذع نفس الشجرة، تعكسان إيمان الرسّام بأن كلّ شيء في الطبيعة له روح وحياة خاصّة به. 
    "الحقل المحروث" تُعتبر أولى محاولات ميرو في الرسم السوريالي. وهي تكشف عن خيال الرسّام المجنّح من خلال محاولته جمع كل هذه الأشكال البشرية والحيوانية والنباتية في مكان واحد.
    غير أن للوحة معنى سياسيا أيضا. فقد رسم فيها عَلَمَي فرنسا واسبانيا، وأضاف إليهما علما ثالثا هو علم كاتالونيا التي كانت تسعى في ذلك الوقت للانفصال عن الوطن الأمّ اسبانيا. وقد أراد من وراء تضمينه علَمها في الصورة إعلان مناصرته الواضحة للقضيّة الكاتالونية. 
    ولد خوان ميرو في برشلونة في نهاية القرن قبل الماضي لأبوين رسّامين. وقد نشأ في كاتالونيا التي كانت تشتهر بجمال طبيعتها وتقاليدها الفنّية العريقة، ومن ثمّ أصبحت بالنسبة له مصدر الهام أساسي لأعماله. 
    وقد تعلّم الرسم على يد فنّان يُدعى خوسيه باسكو علّمه تطويع الألوان ونمّى في نفسه حبّ النحت. 
    وفي ما بعد تعلّم في أكاديمية برشلونة. وبعد تخرّجه منها بدأ مزاولة الرسم. وكانت تغلب على أعماله الأولى النزعات الوحشية والتعبيرية. وفي مرحلة تالية أعجب بالسورياليين وبدأ يجرّب أساليبهم. 
    بعض رسومات ميرو يبدو فيها واضحا عشقه للشعر. وكان من عادته أن يستخدم الكلمات المكتوبة كعنصر لا يتجزّأ من اللوحة. 
    عندما اندلعت الحرب الأهلية الاسبانية كان الرسّام يعيش في باريس. وقد ظلّ هناك طوال سنوات الحرب مكتفيا بسماع أخبار الوطن عن بعد. ورغم انه لم يكن له ميول سياسية محدّدة، إلا انه كان يعبّر عن قلقه على مصير بلده من خلال الرسم. وقد رسم وقتها عدّة لوحات استخدام فيها ألوانا قاتمة تعكس حزنه وقلقه. 
    عُرف عن ميرو انه كان إنسانا متواضعا ومنضبطا وقليل الكلام. وعلى عكس الكثير من الرسّامين في عصره، لم يكن هناك في شخصيّته ما يشي بكونه بوهيميّا أو فوضويّاً. 
    ورغم شهرته العالمية، لم تكن حالته المادّية ميسورة دائما. وبعد أن عاد إلى اسبانيا عام 1940 اختار بالما دي مايوركا مكانا دائما لإقامته وشيّد فيها فيللا خاصّة راعى في تصميمها الطراز المعماري الحديث الذي كان شائعا في الخمسينات. 
    وقد عاش خوان ميرو إلى أن بلغ التسعين. وتوفّي في ديسمبر من عام 1983م. 
    وفي ما بعد جرى تحويل منزله إلى متحف يحمل اسمه.

    لقطـة سريعـة في بياريتـز 
    للفنان الإسباني يواكيـن سـورويـا، 1906

    يُعتبر يواكين سورويا احد أشهر الرسّامين في اسبانيا. وهو معروف بمناظره الطبيعية التي يشعّ منها الضوء وببراعته في رسم البورتريه. 
    وقد ارتبط اسم سورويا بالانطباعية عندما كانت الحركة تعيش في فرنسا أزهى فتراتها. ولوحاته تغلب عليها الملامح الأساسيّة للانطباعيين، كالرسم خارج الأماكن المفتوحة، والبحث عن اللحظة الفورية في حركة الطبيعة، والإمساك بتأثيرات الضوء، بالإضافة إلى غياب خطوط الحوّاف واستخدام فرشاة صغيرة وفضفاضة. 
    هذه اللوحة تعدّ إحدى أشهر لوحاته، وفيها يرسم زوجته وهي تجلس على شاطئ البحر مرتدية فستانا ابيض وقبّعة وممسكة بآلة تصوير. 
    رسم سورويا المنظر في صيف عام 1906، حيث كان يقضي إجازته بصحبة زوجته على شاطئ ميرامار في بياريتز، وهو منتجع سياحيّ يقع على شاطئ الأطلسي جنوب غرب فرنسا وعلى مسافة قريبة من الحدود مع اسبانيا. والمكان مشهور بشطآنه الطويلة وبحياة الليل، ما جعله مكان جذب للسيّاح من أماكن شتّى. 
    ويبدو أن الرسّام كان متأثّرا بالأجواء الصافية في بياريتز. فالألوان البنفسجية والبيضاء والفضّية اللامعة والشفّافة تغلب على هذه اللقطة التي لا تخلو من تناغم وأناقة وانسجام. تشعر وأنت تتأمّل هذه الصورة بنسيم البحر وبأضوائه التي يقال إن رسّاما لم يمسك بها في أعماله بمثل ما فعل سورويا. 
    في ذلك العام، كان الفنّان قد حقّق شهرة ونجاحا ماليّا بعد أن نظّم أوّل معرض ناجح للوحاته في باريس. ووصلت سمعته العالمية إلى الولايات المتحدة وأجزاء من أوربّا. ورافق ذلك اهتمام اكبر من قبل الزبائن بشراء واقتناء أعماله. 
    قابل سورويا زوجته كلوتيلدا ديل كاستيللو لأوّل مرّة عام 1881 عندما كان عمره 18 عاما وكان يعمل مصوّرا في محلّ والدها انطونيو غارسيا، ثمّ تزوّجا عام 1889م واستقرّا في مدريد. وقد رسمها مرّات عديدة، أحيانا لوحدها وأحيانا بصحبة أطفالهما. 
    كانت كلوتيلدا ملهمة سورويا الأولى ورفيقته وأمّ أطفاله الثلاثة. وهي تظهر في لوحاته بأوضاع مختلفة، أحيانا كسيّدة بورجوازية، وأحيانا كأمّ، وفي بعض اللوحات تبدو كمرآة تعكس النجاح الذي حقّقه زوجها. كما أن حضورها يشعّ في غرف متحف الرسّام في مدريد والذي يضمّ العديد من اللوحات والرسائل والمقتنيات الشخصيّة. وطوال حياتهما، تبادل الاثنان أكثر من ألفي رسالة تعكس الحبّ العظيم الذي كان يربط بينهما. 
    كلوتيلدا ديل كاستيللو كانت بالنسبة لـ سورويا رمزا للرّقي والأناقة. ومن الواضح انه لم يكن يحتاج لموديل خاصّة كي يرسمها، لأن زوجته كانت بالنسبة له كلّ شيء. وهي لم تكن تتمتّع بجمال خارق أو خاصّ، لكن كان لديها الأناقة وسحر الشخصية. ومن السهل متابعة مراحل حياتها من خلال اللوحات الكثيرة التي رسمها لها والتي تصوّر حتى آثار مرور الزمن على وجهها. وهذه اللوحات يمكن اعتبارها شهادات حيّة وتلقائية عن حياتهما العائلية، وفيها تبدو إمّا وهي تقرأ، أو وهي نائمة على الأريكة، أو تمشي على الشاطئ أو تلعب مع أطفالها. 
    في إحدى لوحاته الأخرى، يرسم سورويا زوجته واثنتين من بناته وهنّ يمشين على الشاطئ. المنظر يوصل إحساسا بأجواء البحر المتوسّط. الألوان ساطعة وحيّة، ونسيم البحر يتجسّد من خلال حركة الملابس. هنا أيضا، لم يستخدم الرسّام الأسود كلون للظلال، بل البنفسجيّ والأبيض والبنّي كما هي عادة الانطباعيين. 
    ورغم أن سورويا كان دائم السفر وزار العديد من البلدان والمدن، إلا أن بلنسية ظلّت مدينته المفضّلة والأثيرة إلى نفسه. ولوحاته عنها وعن شطآنها مليئة بالأضواء الذهبية والساطعة، مع صور لصيّادين وأطفال ونساء يمارسون أنشطة يومية مختلفة. 
    ولد يواكين سورويا في بلنسية في فبراير من عام 1863م وكان الابن الأكبر لوالده التاجر. وقد توفّي والده وعمره لا يتجاوز العامين، فتربّى في كنف عمّه. وتلقّى أوّل تعليم له في مدينته. وفي سنّ الثامنة عشرة سافر إلى مدريد ودرس لوحات كبار الرسّامين في متحف برادو. بعد ذلك قضى أربع سنوات في روما لدراسة الرسم. وقد تأثّر بلوحات كل من جول باستيان لوباج وأدولف فون مينزل . 
    في بعض الأوقات، كان سورويا يتردّد على أشبيلية وغرناطة وقصر الحمراء. وقد أثمرت زياراته المتكرّرة لتلك الأماكن عددا من الصور غير العاديّة لحدائق الريف الأندلسي التي تتفجّر منها الألوان البرتقالي والمشمشي وشلالات الأزهار البيضاء والزهرية. غير أن لوحاته تلك تثير التأمّل الحزين على عكس ما توحي به لوحاته الأخرى التي يصوّر فيها الشواطئ التي تضجّ بالحياة وبضروب التسلية واللهو. 
    وقد تأمّل سورويا المعمار الأندلسيّ طويلا ووجده في بادئ الأمر متقشّفا وبعيدا عن ذوقه. وشرح ذلك الانطباع مرّة في رسالة إلى زوجته يقول فيها: يوجد هنا الكثير من الرخام والأفنية المرصوفة. الحمراء ليست مكانا للحدائق بل مجرّد فراغ صغير وحزين. إنها أشبه ما تكون بدير للراهبات". 
    غير أن الصمت الخفيّ لتلك الأماكن التي لا يبدّد سكونها سوى أصوات خرير النوافير بدأ يثير افتتان الرسّام شيئا فشيئا. فعاد إليها مرّة تلو مرّة ليصوّر جوهرها ويجسّد طبيعتها على رقعة الرسم. وفي بعض المرّات كان يُحضِر معه من هناك أنواعا من الحجارة والبلاط والنباتات ليزرعها في حديقة منزله. وعندما نمت الحديقة أصبحت موضوعا لبعض لوحاته التي كان يصوّر فيها أفراد عائلته وبعض أصدقائه. 
    الوجود الرعوي والهادئ الذي كان سورويا ينقله في لوحاته عن البيت والحدائق والنوافير لم يُقدّر له أن يعيش طويلا. ففي عام 1920 وبينما كان يرسم في حديقة منزله في مدريد، فاجأته جلطة دماغية قويّة أصيب على إثرها بالشلل وتوفّي بعدها بثلاث سنوات، أي في أغسطس من عام 1923م. وبعد وفاته وهبت زوجته الكثير من لوحاته للشعب الاسباني. ثم قرّرت الحكومة الاسبانية تحويل منزله إلى متحف يحمل اسمه. 


    تحيّـة للمـربّـع 
    للفنان الأمريكي جوزيـف البيـرز، 1953

    كان جوزيف البيرز شاعرا ورسّاما ونحّاتا ومعلّما ومنظّرا للفنّ. والبعض ينظر إلى لوحاته باعتبارها مصدرا مهمّا لأيّ شخص يرغب في معرفة كيف تتفاعل الألوان مع بعضها وكيف تؤثّر في بعضها البعض. 
    البيرز كان يعتبر المربّع أكثر الأشكال ثباتا وحياديّة. وكان يريد من المتلقي أن يفهم التناقض المثير بين الحقيقة الماديّة والتأثير السيكولوجي للألوان، أي ما نسمّيه الخداع البصري للألوان. وقد رسم مئات اللوحات بدرجات ألوان مختلفة ومتفاوتة كي يؤكّد على أن إدراك الألوان مسألة نسبيّة ولا تتسم بالثبات. 
    موضوع هذه اللوحة هو أيضا عن العلاقة بين الألوان المتجاورة وتأثيرها على العين البشرية. وهي واحدة من سلسلة لوحات بدأها الرسّام عام 1951م. اللوحة فيها هندسة وإحكام، واختيار الألوان فيها لم يكن أمرا عشوائيا من قبل الرسّام. ويقال إن النسخة الأصلية منها أكثر جمالا ممّا توصله صورها المستنسخة التي قد لا تنقل نوعيّة الألوان والأضواء فيها. 
    في اللوحة، رسم الفنّان مربّعا كبيرا بلون اخضر خفيف. ثم رسم بداخله مربّعا آخر اصغر قليلا بلون رماديّ. ثم كرّر هذه الخطوة مرّتين وانتهى إلى مربّعين إضافيين بلونين أبيض وأصفر لينتهي بأربعة مربّعات. 
    المربّعات الأخضر والرماديّ والأصفر تبدو أكثر قتامة في أجزائها السفلية. بينما تُرك المربّع الثالث أبيض تماما. وكلّ لون يخترق جوهر الألوان الأخرى، كما أن لمعانه يوفّر هويّة للون الآخر الذي يليه. وفي كلّ هذه المربّعات لا شيء محايد أو متجانس أو متماثل. وكلّها تحتوي على ألوان ذات كثافة متباينة. 
    الرسّام يريد أن يبرهن على أن الألوان عندما تتجاور تنتج تأثيرات بصرية متغيّرة وكلّ منها يغيّر الآخر ويؤثّر فيه. كما أن نفس اللون مع خلفية مختلفة وبمجاورة ألوان أخرى يبدو مختلفا. هذا الخداع اللوني يثبت أننا نرى الألوان وكأنها لا تمتّ لبعضها البعض بصلة. 
    ولد جوزيف البيرز في مارس من عام 1888 لعائلة من أصل ألماني. درس الرسم في برلين وميونيخ، ثم سجّل كطالب في جامعة بوهاوس المشهورة. وقد رُقّي في ما بعد إلى درجة أستاذ بنفس الجامعة. وفيها تعرّف إلى رسّامَين أصبحا مشهورين في ما بعد هما كاندينسكي وبول كلي. 
    ومع إغلاق بوهاوس بضغط من النازيين عام 1933، هاجر البيرز إلى أمريكا حيث عمل مدرسّا للفنّ في عدد من جامعاتها. كما أسّس برامج لتعليم الرسم كان لها تأثير واسع في أمريكا وأوربّا. وقد تلقّى جوائز كثيرة ودرجات علمية شرفية عديدة في مراحل مختلفة من حياته. وكان البيرز أوّل رسّام حيّ يقام له معرض تذكّري في متحف المتروبوليتان في نيويورك. ومن أشهر تلاميذه في أمريكا كلّ من ساي توومبلي وروبيرت روشنبيرغ. 
    اليوم يتذكّر الناس جوزيف البيرز باعتباره منظّرا ورسّاما تجريديّا. وقد استمرّ يرسم ويكتب حتى وفاته في شهر مارس من عام 1976م.
     التوقيع 
    " إذا كنت ترغب في التحدث معي عرف ما تقول وحدد قولك " فولتير
  10. #40
    صورة عضوية ReX
    ReX 
    ReX غير متصل حالياًعضو مميز جداً
    تاريخ الانضمام
    06/12/2009
    الجنس
    ذكر
    المشاركات
    7,671

    افتراضي

    غزالان يعدوان خائفيَن في ضوء القمر 
    للفنان الأمريكي كـارل كْنـاتـز، 1932 


    لكلّ رسّام فردوسه الخاصّ. وبالنسبة للرسّام كارل كناتز، كانت الطبيعة والحيوانات والأزهار جزءا لا يتجزّأ من جنّته الأرضية. 
    في هذه اللوحة يرسم كناتز غزالين شاردَين في ليل غابة مسكونة بالصمت والثلج ومضاءة بنور قمر شاحب. 
    المنظر شاعري بامتياز. الألوان باردة، والحركة والمزاج اللذان تثيرهما اللوحة يكمّلان بعضهما. كما أن موضوع اللوحة يتضمّن عناصر يمكن أن تُبنى عليها قصّة ذات نهايات مفتوحة. 
    في الغابة لا توجد أسوار تحدّ من حركة الحيوان. وضوء القمر يوفّر فرصة للغزلان كي تتجوّل في الغابة ليلا باحثة عن طعام. لكن هذا هو الوقت المناسب أيضا بالنسبة للصيّادين الذين يقتفون أثرها والحيوانات الكاسرة التي تبحث عادة عن فرائس سهلة في الليل. 
    رسم الفنّان أوّلا أشكالا داخل الفراغات وأقام معمار اللوحة اعتمادا على الخطوط السوداء السميكة. هناك أيضا الخطوط المتعرّجة والمتوتّرة للفرشاة والتي توحي بانكسار الصمت، لدرجة أن الناظر يكاد يسمع أصوات الفرقعة التي أزعجت هذين الحيوانين وأثارت خوفهما. 
    هذه اللوحة تعكس أسلوب الرسّام في تصميم مناظره واختيار الألوان المناسبة لها. ومن الواضح انه رسم في البداية اسكتشات للوحة ثم قاس المسافات بين عناصرها وحدّد النسب بين هذه المسافات والقيم المختلفة للألوان. 
    ورغم التنفيذ الهندسي الصارم للوحة، إلا أن خصائصها الشاعرية والروحية تظلّ الأكثر أهمّية. 
    المعروف أن كناتز رسم سلسلة من اللوحات التي تصوّر غزلانا في الغابة في أوقات مختلفة من اليوم. 
    وقد واتته فكرة رسم غزلان في الطبيعة في أوائل عشرينات القرن الماضي. كانت طبيعة الحياة في الريف عنصر إلهام له في ذلك. وما كتبه في ملاحظاته يشي بحماسه الكبير للبرّية وحبّه لكائناتها. 
    ولوحات الرسّام تلك يمكن اعتبارها رمزا لافتنانه بالفكرة. وقد ظلّ منجذبا إلى الطبيعة وغموضها طوال حياته. كان يؤمن بأن الطبيعة مصدر كلّ الفنون وأن للغابات والأنهار والحياة البرّية عموما خصائص روحية وباطنية. وقد عُرف عن كناتز تأثّره بكتابات فلاسفة الطبيعة من أمثال ايمرسون وثورو وبليك. 
    علاقة الغزال بالرسم قديمة جدّا. إذ يظهر كثيرا في رسومات الكهوف التي يعود بعضها إلى عصور موغلة في القدم. وطبقا لبعض الحضارات الوثنية، يُعتبر الغزال أحد أقدم الحيوانات التي وُجدت على الأرض. وهو يرمز عند الأقدمين إلى الخصوبة وتجدّد الحياة والوفرة. كما أنه معروف بصبره وأناته وبقدرته الفائقة في معرفة الاتجاهات وبكونه حيوانا معمّرا، لذا يعتبره الصينيون رمزا لطول العمر والحياة السعيدة. وفي الأساطير فإن ظهور غزال قد يكون مؤشّرا على وقوع حدث كبير أو مهمّ. 
    في العصر الحديث، ما يزال الغزال موضوعا مفضّلا عند رسّامي الطبيعة والحياة الفطرية. وقد تكون أشهر لوحة عن غزال هي تلك التي رسمتها الفنّانة المكسيكية فريدا كالو عندما صوّرت نفسها على هيئة غزال صغير تخترق جسده السهام. 
    درس كارل كناتز الرسم في معهد شيكاغو للفنّ. وقد كان متأثّرا كثيرا بـ سيزان. كما استفاد من أسلوب الرسم الياباني والصيني في رسم وتمثيل الحيوانات والطبيعة. 
    وكان دائما ما يستشهد بآراء كاندينسكي وموندريان وماليفيتش وغيرهم من رموز الرسم الحديث. كما كان يشاطر كاندينسكي رأيه القائل بأن ثمّة توافقا بين الصوت في الموسيقى واللون والفراغ في اللوحة. لكن من الواضح أن كناتز لم يحبس نفسه في التنظيرات والأمور الفلسفية، بل كرّس كلّ اهتمامه لإنتاج العديد من اللوحات الشاعرية والمعبّرة. 
    الجدير بالذكر أن كناتز كان مغرما، بشكل خاص، برسم أزهار الليلك التي ظلّ يصوّرها طيلة حياته. كان انجذابه إلى تلك الأزهار غريبا وغامضا، كما لو انه كان يتوق أثناء وجوده على الأرض أن يحصل على ما يكفيه من عبيرها وألوانها. ولم تعطه تلك الأزهار موضوعا للوحاته فقط، وإنما منحته أيضا بعض أرقّ وأجمل ألوانه مثل اللافندر والليلكي والأرجواني.

    الموجة الكبيرة قبالة شاطيء كاناغاوا 
    للفنان الياباني كاتسوشيكا هوكوساي، 1831 


    يعتبر بعض النقّاد هذه اللوحة أشهر لوحة فنية في آسيا، كما أنها أصبحت منذ إنجازها قبل أكثر من 180 عاما أيقونة ترمز للفن الياباني في العالم. 
    أما هوكوساي فهو أحد الأسماء الكبيرة في الفنّ التشكيلي في اليابان. وقد تلقّى تعليمه على يد مواطنه شونشو الذي اكتسب منه مهارات الحفر والرسم على الخشب. 
    وقد ظلّ هوكوساي يحظى بشهرة في الغرب أكثر من تلك التي حصل عليها في بلده اليابان. 
    وحوالي منتصف القرن التاسع عشر وصلت أعماله إلى باريس ولقيت احتفاءً كبيرا من الرسّامين الانطباعيين آنذاك أمثال مونيه وديغا وتولوز لوتريك. 
    في "الموجة الكبيرة" نرى ثلاثة قوارب تتأرجح وسط الأمواج المضطربة. وهناك بشر صغار قد يكونون بحارة أو صيّادين يحاولون مستميتين الإفلات من قبضة الموجة الكبيرة التي تتكسّر لتشكّل ما يشبه المخالب الضخمة التي تطبق على الصّيادين. 
    ومن بعيد تلوح للناظر قمّة جبل فوجي المقدّس وقد كلّلتها الثلوج. 
    لكن رغم العاصفة البحرية وثورة الموج، تبدو الشمس مشرقة والجوّ صحوا. 
    كان هوكوساي فنّانا قويّ الملاحظة. وقد صوّر في لوحاته التي تجاوز عددها الثلاثين ألفاً الطبيعة والبشر واستمدّ مواضيع أعماله من حضارة اليابان الخصبة وتقاليدها العريقة وأساطيرها المدهشة. 
    لكنه لم يهتم بتصوير الساموراي والنبلاء والجنرالات أو الشوغنز Shoguns ، بل أبدى تركيزا خاصّا على رسم الناس العاديين ومظاهر حياتهم اليومية."الموجة الكبيرة" هي واحدة من سلسلة من ستّ وثلاثين لوحة رسمها الفنان تحت عنوان: ستّة وثلاثون منظرا لجبل فوجي". 
    واللوحة كما هو واضح تصوّر جبروت الطبيعة وصراعها الأزلي مع الإنسان الذي ينتصر على هشاشته وضعفه بامتلاكه العزيمة والإرادة القويّة. 
    لكن اللوحة أصبحت اليوم ترمز أيضا إلى طوفان المعرفة وصراع العالم المعاصر مع السّيل الجارف والمنهمر من الأخبار والمعارف والمعلومات التي تستجدّ كلّ ساعة وكلّ دقيقة. 
    كان هوكوساي يميل إلى حبّ الطبيعة. والكثير من رسوماته تتضمّن صورا لطيور وحيوانات وأعشاب وأشجار وأزهار. 
    لكنه كان مفتونا أكثر بحبّ البحر. وكان يصوّر الماء في حالة حركة. وبخلاف معاصريه من الرسّامين، لم يكن مغرما بتصوير حياة الأعيان والأغنياء، بل كان يفضّل رسم صيّادي السمك في حياتهم اليومية البسيطة، رغم حقيقة انه ما كان يجرؤ فنان في ذلك الوقت على رسم هذه الطبقة التي كان ينظر إليها المجتمع الياباني آنذاك نظرة دونية واحتقار. 
    ثمّة من يقول إن "الموجة الكبيرة" لوحة غربية رُسمت بعيني فنّان ياباني. إذ لم يُعرف عن الفنانين اليابانيين في ذلك الوقت اهتمامهم بتصوير الطبيعة كما لم يكونوا يهتمون بالمنظور أو رسم الأشخاص. 
    وهناك من النقاد من يرى أن الرسّامين اليابانيين استفادوا من لوحات الريف الهولندية فكيّفوها وأعطوها نكهة وطابعا يابانيا. 
    ومع ذلك، فمنذ منتصف القرن قبل الماضي كانت الأعمال التشكيلية اليابانية قد غزت عواصم الفنّ والثقافة الغربية ووجد فيها فنانون مثل جون ويسلر وفان غوخ ما أثار اهتمامهم فاقتبسوا في أعمالهم بعضا من أساليبها وتقنياتها المميّزة. 
    خلال حياته، كان هوكوساي شخصا غريب الأطوار وذا نزوات كثيرة. فقد كان يرسم لوحات كثيرة غير انه كان يتلف ما رسمه، ربّما سعيا وراء المزيد من الإجادة والكمال. كما قام بتغيير بيته أكثر من تسعين مرّة واتخذ له أكثر من عشرين اسما مختلفا طوال حياته. 
    ويُحكى انه عندما حضرته الوفاة، وكان في سنّ التسعين، تمنّى لو منحته السماء خمس سنوات إضافية كي يرسم أفضل وأجمل.

    إنعكـاس، بورتـريه شخـصـي 
    للفنان البريطاني لـوسيـان فـرويـد، 1985 


    بعض النقاد يعتبرون لوسيان فرويد أعظم الرسّامين البريطانيين الأحياء. وفرويد ينحدر من عائلة ألمانية يهودية عريقة. فجدّه هو الطبيب وعالم النفس الشهير سيغموند فرويد. ووالدته تنتمي إلى أسرة من التجّار وأرباب الأعمال. 
    ولد فرويد في برلين عام 1922م. وعندما جاء هتلر إلى الحكم أصبحت أوضاع اليهود في ألمانيا لا تطاق. فقرّرت العائلة الهجرة إلى بريطانيا والإقامة فيها نهائيا. 
    وأعمال لوسيان فرويد تكتسب أهمّية خاصّة لأنها مرتبطة بزمن الحرب وبتبعات الحقبة النازية. ولوحاته تمتليء بصور لرجال ونساء عراة في مواقف وأوضاع شتّى. 
    وقد قيل في إحدى المرّات أنه بقدر ما كان سيغموند فرويد مهتمّا بدراسة النفس وسبر أغوارها، بقدر ما أن حفيده مهجوس بالجسد. وهناك حضور شبه دائم للكراسي في لوحاته. ويبدو أن اهتمامه بالكراسي والأرائك يستمدّ مغزاه من قرب هذه الأشياء من اللحم الإنساني الذي يشكّل لفرويد مصدر قلق وتفكير دائمين. 
    وعندما نتمعّن في لوحاته التي تصوّر نساءً عاريات نكتشف أن لا علاقة لها بالجنس أو الإيروتيكية. فالجلد سميك متغضّن والعظام نافرة والأطراف منهكة والأعين جامدة والوجوه حزينة وباردة. 
    وحضور النساء في اللوحات يتسمّ بالغموض والتشظي، وملامحهن إجمالا لا تثير في النفس سوى شعور بالتوتّر الذي لا يوصف وبالعزلة المتعبة وبالاستلاب المضني. 
    في إحدى لوحاته القديمة، نرى امرأة شابّة بنظرات شاحبة وهي تمسك بقطّة صغيرة من رقبتها. ورغم خلوّ تعابير المرأة من أي أثر للعدوانية أو العنف، فإن المنظر يوحي كما لو أن المرأة توشك أن تقتل القطّة خنقا. 
    من أشهر لوحات لوسيان فرويد هذا البورتريه الذي رسمه لنفسه في سنّ الرابعة والستّين، أي عندما كان في ذروة نضجه الفنّي. واللوحة ليست "بورتريه" شخصّيا بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هي صورة الفنان كما تبدو منعكسة في مرآة، بحسب ما يشير إليه العنوان. 
    تعابير الوجه هنا صارمة، والنظرات قاسية، قلقة، ومتوتّرة مثل نمر متحفّز. إنه نفس أسلوب فرويد الذي يتّسم بالعنف والوحشية والصدمة. ومن الملاحظ أنه استخدم في اللوحة ضربات فرشاة سميكة وسكب على القماش طبقات كثيفة من الطلاء. ومن بين كتل الألوان الخام والمشبعة نلمح في الوجه آثار رضوض وندوب، كأنما يعطي الإحساس بقسوة الحياة التي لا تني تعاقبنا وتجعلنا نبدو عراة، مكشوفين، ضعفاء ووحيدين. 
    وفرويد يفعل هذا بواقعية شديدة وبمزاج مشبع بالوحدة والانقباض. 
    يقول أحد أصدقائه إن من عادة فرويد أن يرتدي في محترفه ملابس تناسب مواضيع صوره، وهو يباشر عمله في الرسم بزيّ جزّار مسلّح بالمناشير والفوط والسكاكين. 
    ولا يبدو الفنان مهتمّا بإظهار الجمال في أعماله إلا بقدر ما يرى في القبح والدمامة ضربا من الجمال. كما لا يعنيه أن يصوّر الجوانب الإنسانية التي تعبّر عن السعادة والأمل والنبل والتفاؤل. 
    ويمكن القول أن السمة الغالبة على لوحات فرويد هي كونها ذات مضامين سيكولوجية ووجودية، وهو أمر يؤهله لأن يكون رسّاما "فرويديا" حتى النخاع. 
    فالكثير من لوحاته مزعجة وتعطي شعورا بجدب الحياة ووحشتها وهشاشتها. وكلّ شخصية لها فضاؤها الوجودي الخاص والمستقل. وليس هناك اتصال بين الشخصيات، إذ لا أحد ينظر إلى الآخر مباشرة، ونادرا ما يعترف أحد بوجود الآخر. وفي غالب الأحيان تظهر الشخصيات كما لو أنها مشدودة إلى أسفل بفعل قوّة خفيّة وغامضة. 
    ومن الواضح أن فرويد يتعمّد دائما تصوير الغرف بحيث تخلو من أي أثر للتكنولوجيا أو لوازم الحياة اليومية الأخرى، وكأنها - أي الغرف – فضاءات خاصّة ومنعزلة توفر للشخوص فيها ملاذا مريحا وآمنا يحميها من فظائع وتعاسات العالم الخارجي. 
    مما يجدر ذكره في الختام أن فرويد يقترب اليوم من عامه السادس والثمانين. وهو أب لأربعين طفلا أنجبهم من علاقاته العابرة مع عدد من النساء من بينهن بعض "موديلاته". ومؤخّرا إبتاع مليونير روسي لوحته المسمّاة "مديرة المتجر النائمة Benefits Supervisor "Sleeping والتي تصوّر امرأة بدينة عارية بمبلغ 34 مليون دولار أمريكي. كما بيعت لوحتة الأخرى "على خُطى سيزان After Cézanne " بمبلغ ثمانية ملايين دولار.
     التوقيع 
    " إذا كنت ترغب في التحدث معي عرف ما تقول وحدد قولك " فولتير
  11. #41
    صورة عضوية ReX
    ReX 
    ReX غير متصل حالياًعضو مميز جداً
    تاريخ الانضمام
    06/12/2009
    الجنس
    ذكر
    المشاركات
    7,671

    افتراضي

    وسَط أبيض "اصفر ووردي ولافندر على زهري" 
    للفنان الأمريكي مـارك روثـكـو، 1950 


    هذه اللوحة تُعتبر احد أشهر الأعمال الفنّية ونموذجا للفنّ الأمريكي الحديث. وقد سجّلت رقما قياسيا عالميا عندما بيعت في مايو عام 2007 في مزاد في لندن بأكثر من 72 مليون دولار أمريكي. وتبيّن في ما بعد أن المشتري المجهول كان أمير دولة قطر. وقد اشترى الأمير وزوجته أيضا في نفس المزاد لوحة فرانسيس بيكون دراسة للبابا اينوسنت العاشر بمبلغ 53 مليون دولار. 
    مارك روثكو، واسمه الحقيقي ماركوس روثكوفيتش، هو احد أهمّ الرسّامين في القرن العشرين. كما انه رائد ما يُسمّى بأسلوب المجالات اللونية في التعبير التجريدي. 
    وقد ولد الرسّام في لاتفيا في منطقة بحر البلطيق عام 1902م. وبعد عشر سنوات من ولادته، هاجرت عائلته إلى الولايات المتحدة. 
    كان روثكو معجبا بـ دوستويفسكي. كما كان مطّلعا على أفكار نيتشه وعلى الميثولوجيا الإغريقية. وفنّه يتسم بالمضامين الانفعالية التي راكمها من خلال تجريبه للعديد من الأساليب الفنّية، من السوريالية إلى الفنّ الميثي إلى البدائي، إلى أن توصّل إلى أسلوبه الخاصّ والمسمّى بالتعبير التجريدي. 
    وكان أوّل من استخدم هذا المصطلح، أي التعبير التجريدي، الناقد الأمريكي روبرت كوتس عام 1945م. وقد وصف احد النقّاد أتباع هذه المدرسة أو الأسلوب بأنهم يفضّلون التعبير على الإتقان، والمجهول على المعلوم، والغامض على الواضح، والفرد على المجموع، والداخلي على الخارجي. 
    هذه اللوحة هي أوّل عمل كبير في أسلوب روثكو المشهور والذي ابتكره في شتاء عام 1948م. وفيه نرى كتلا من الألوان المتكاملة مرتّبة أفقيا على رقعة قماش. وقد اعتمد الرسّام على إضافة طبقة فوق طبقة من الطلاء السميك لإنتاج مجال كثيف من الألوان والأشكال المتشابكة. 
    وقسّم اللوحة من فوق إلى تحت إلى مستطيلات أفقية قوامها الألوان الأصفر والأبيض والوردي واللافندر والزهري. وحاول خلق توازن متناغم بين اللون والشكل من خلال الأشكال المستطيلة الطافية الممثّلة بألوان ذات حوافّ ناعمة. اللون الأبيض المضيء يهيمن على وسط اللوحة. ويبدو كما لو انه يفيض على خلفية من اللون الأحمر الفاتح. 
    روثكو كان مفتونا على وجه الخصوص باللون الأحمر. وقد اهتمّ به لقوّته وحركيّته ولقدرته على إثارة الارتباطات الانفعالية والعاطفية. 
    أعمال الرسّام يغلب عليها التأمّل، كما أنها توحي بأجواء وأمزجة مختلفة. وبعضها يقتضي من المتلقّي وقتا أطول في النظر والتأمّل كي يكون مشاركا فيها بفاعلية. أي أن الأفكار والخبرات الفردية عن اللون والضوء تصبح جزءا من العمل. 
    تتّسم لوحات روثكو أيضا بمساحاتها الكبيرة وبألوانها وتقسيماتها المتعدّدة. وقد أحبّ لوحاته الكثيرون حول العالم وبيع بعضها بعشرات الملايين. لكن بعض منتقديه يذهبون إلى القول إن مساعيه في التعبير عن الأفكار المتسامية كانت طموحة أكثر ممّا ينبغي. بينما يعتبر آخرون أعماله مملّة أو خالية من المضمون. 
    ورغم أن روثكو بدأ بتجريب الألوان الحيوية والغنيّة في لوحاته المبكّرة، إلا انه انتقل بعد ذلك إلى ألوان أكثر خفّة وبرودة. وكانت تلك في رأي البعض علامة على اكتئابه المتزايد. 
    في الأعوام الأخيرة من حياته، أصبح روثكو يتناول الكحول بإفراط ويدخّن بشراهة، كما أسلم نفسه لنوبات طويلة من الاكتئاب. 
    وفي احد أيّام شهر فبراير من عام 1970 أقدم مارك روثكو على الانتحار وهو في سنّ السادسة والستّين. وتبيّن انه كان قد تناول جرعة زائدة من الحبوب المنوّمة ثم عمد إلى قطع شريان يده بموس حلاقة. 
    وقبيل وفاته بوقت قصير، تعاقد معه مطعم في نيويورك ترتاده النخب الرفيعة عادة على أن يرسم ستّ لوحات كي تزيّن القاعات الداخلية للمطعم. وعندما فرغ روثكو من رسمها، تراجع عن الاتفاق. وقيل وقتها انه رفض أن تصبح لوحاته مادّة لتسلية الأغنياء وأفراد الطبقة الحاكمة. وفي ما بعد، تبرّع باللوحات لمتحف تيت البريطاني. 
    والمفارقة انه في يوم وصولها إلى لندن، وُجد الرسّام ميّتا في منزله بـ نيويورك. 
    يمكن القول إن لوحات مارك روثكو ليست للتسلية أو الاسترخاء. كما أنها لا تحمل أيّ رسائل. والبعض يراها كالنوافذ التي تسمح للناظر أن يطلّ على عوالم الروح. وهذه الأيّام أصبح اقتناء لوحة من لوحاته يُعتبر حلما بالنسبة للمتاحف وأصحاب المجموعات الفنّية الخاصّة.


    ثــلاث قـطـط ســوداء 
    للفنانة الكندية مــود لـويــس 


    لوحة شهيرة ومألوفة للكثيرين، وهي تجسّد البساطة والعفوية في أجلى معانيهما. 
    كانت مود لويس تهتمّ برسم مظاهر الحياة الريفية في مقاطعة نوفاسكوشيا، حيث الحيوانات والطبيعة وأنماط شتّى من أنشطة الحياة اليومية. 
    ومع ذلك لم تنظر لويس إلى نفسها يوما باعتبارها فنانة. فهي لم تتلقّ تعليما نظاميا في الفن ولم تذهب إلى غاليري يوما، لكنها كانت تمارس الرسم لأنها ببساطة كانت تجد فيه متعتها الكبرى.
    عاشت مود لويس حياة غير سعيدة في اغلبها، إذ ولدت بإعاقة في ظهرها ويديها رافقتها طيلة حياتها. كما عانت طويلا من آلام المفاصل المزمنة. 
    ورغم ذلك رسمت الفنانة عددا كبيرا من اللوحات التي تصوّر القطط والطيور والغزلان والثيران، وتميّزت لوحاتها بإحساس قويّ بالموضوع وبراعة في التشكيل بفضل قوة الملاحظة والإدراك العالي لكل ما تقع عليه عيناها في الطبيعة المحيطة من صور ومؤثّرات. 
    كانت مود لويس تحبّ الحيوانات والأطفال كثيرا، لكن ولعها بالقطط كان استثنائيا، لدرجة أنها أصبحت عنصرا ثابتا في معظم لوحاتها. 
    و "ثلاث قطط سوداء" هي بلا شك اشهر لوحات الفنانة وأكثرها استنساخا وانتشارا، وهي نموذج لأسلوبها الفني المتفرّد. وأوّل ما توحي به اللوحة للناظر هو البراءة والعفوية، مع أن القطط تبدو هنا لعوبة وشقية بدليل هذه النظرات الصارمة التي توجّهها للناظر وذلك البريق المنبعث من عيونها وهي تجلس في هذا الجزء الهادئ من الحديقة محاطةً بالأزهار والفراشات. 
    كانت القطط مصدر سعادة كبرى للفنانة، وقد تمكّنت من تجسيد هذا الإحساس في اللوحة بطريقة عفوية وصادقة. وليس بالمستغرب أن ينجذب عشّاق القطط وباعتها وهواة اقتنائها إلى هذه اللوحة فيعلّقوها في بيوتهم ومتاجرهم. عبر القرون، كانت القطط إما تتمتّع بمكانة عالية أو تعامَل كالشياطين. لكن نادرا ما كان يتمّ تجاهلها. وقد ظهرت في الفنّ منذ عصور مبكّرة. المصريون القدماء كانوا يعاملون القطط بكثير من الاحترام. وإحدى الإلهات الفرعونيات رُسمت على شكل امرأة برأس قطّة. وفي كتاب الأموات، يظهر رسم لإله الشمس على هيئة قطّة كبيرة تقتل أفعى. 
    الفنّ الياباني هو الآخر عُني كثيرا برسم القطط. ويعتقد اليابانيون أن القط الأبيض يجلب الحظ الحسن والسعادة.
    كما تظهر القطط في بعض لوحات الرسّامين الأوربيين مثل رينوار وبيكاسو ومانيه وحتى دافنشي. في إحدى لوحاته يرسم رينوار فتاة نائمة على كرسي بينما تستقرّ على حضنها قطّة صغيرة.
    في أخريات حياتها، أصبحت لوحات مود لويس اكثر بساطة من حيث التصميم واكثر غنى في الألوان والخطوط. ومع نضج أسلوبها الفني أصبحت تتبنّى رؤية فنية تنحو باتجاه المزيد من التجريد. وكانت عندما تروق لها لوحة من لوحاتها أو عندما يبدي الناس إعجابا باللوحة، تباشر في رسم نسخ أخرى منها مع بعض التعديل والتحوير وبما لا يؤثّر على الفكرة الأصلية للوحة. 
    توفّيت مود لويس في العام 1970 عن عمر ناهز السابعة والستين. وقد كانت حياتها موضوعا للعديد من البرامج التلفزيونية الوثائقية والكتب، كما انتج فيلم سينمائي عن حياتها وفنّها.

    لاعبــو الـــورق 
    للفنان الفرنسي بـول سيـزان، 1892 


    يُنظر إلى هذه اللوحة باعتبارها إحدى اشهر اللوحات في تاريخ الفن الحديث. 
    واللوحة هي واحدة من خمس لوحات رسمها الفنان بول سيزان وضمّنها نفس الفكرة: أشخاص يلعبون الورق. 
    وقد استمدّ سيزان موضوع اللوحة من أجواء منطقته الباريسية "ايكسان بروفانس" التي كانت تضم أخلاطا من البشر، من عمّال وحرفيين وفلاحين وأناس عاديين. 
    في اللوحة حاول سيزان إعادة اكتشاف وظيفة الحيّز والخطوط. وبناء اللوحة يعتمد في الأساس على مركز الزجاجة الكائنة في منتصف الطاولة، والتي تقسم الحيّز إلى مناطق متقابلة للتأكيد على الطبيعة الثنائية للموضوع. 
    كان سيزان صديقا مقرّبا من اميل زولاالذي اصبح في ما بعد أحد اشهر الروائيين الفرنسيين. 
    وقد تأثّر سيزان بكل من اوجين ديلاكروا وادوار مانيه، لكنه تأثر اكثر بأسلوب كميل بيسارو الذي دعمه كثيرا وعرّفه بأسلوب الانطباعيين في تمثيل الضوء والإمساك بتأثيرات الطبيعة المتحوّلة، من خلال نثر الألوان بضربات خفيفة والاقتصاد في رسم الخطوط. 
    في "لاعبو الورق" يبدو الجوّ جادّا وكئيبا إلى حدّ ما، ومما يعزّز هذا الانطباع الطاولة ذات الألوان البنّية والخلفية الأكثر قتامةً بفعل مزج الألوان الزرقاء والسوداء. 
    وفكرة لعب الورق ظهرت في المراحل الأخيرة من حياة سيزان الفنية. ويقال بأن الفنان ربما أراد من وراء الفكرة تصوير المواجهات التي كانت تجري بينه وبين والده الذي كان ينتقص منه دائما ويشكّك في موهبته. 
    كان سيزان يهتّم في الغالب برسم الأشياء الأكثر ثباتا وديمومة كالمناظر الطبيعية والمباني والطبيعة الساكنة. و "لاعبو الورق" تعتبر خروجا على النسق الفني الذي اختطه لنفسه. وربّما يكون السبب عائدا إلى ارتباط الفنان الوثيق بأجواء وتفاصيل بيئته المحلية. 
    ولسنوات طوال ظلّ سيزان غير معروف سوى لدائرة صغيرة من زملائه القدامى ولبعض الفنانين الانطباعيين الجدد والمتحمّسين، من أمثال فان غوخ وبول غوغان. 
    لكن عند وفاته في العام 1904، كان سيزان قد حقّق مكانة أسطورية بين فنّاني عصره، وُعرضت أعماله في اكبر المعارض الفنية، وكان يتقاطر على مرسمه الكثير من الفنانين الشبّان لملاحظته والتعلّم منه. 
    ومنذ سبع سنوات بيعت لوحته المسمّاة "ستارة وآنية خزف وصحن فاكهة Rideau, Cruchon et Compotier" في مزاد سوثبي بأكثر من ستين مليون دولار، لتصبح بذلك سادس أغلى لوحة فنية في العالم.
     التوقيع 
    " إذا كنت ترغب في التحدث معي عرف ما تقول وحدد قولك " فولتير
  12. #42
    صورة عضوية ReX
    ReX 
    ReX غير متصل حالياًعضو مميز جداً
    تاريخ الانضمام
    06/12/2009
    الجنس
    ذكر
    المشاركات
    7,671

    افتراضي

    منظـر ساحـة بعد المطـر
    للفنان الأمريكي بـول كورنـوير، 1910


    يعتبر بول كورنوير احد أهمّ أقطاب الانطباعية الأمريكية. وقد درس الرسم في الولايات المتحدة قبل أن ينتقل إلى باريس التي ظلّ فيها خمس سنوات تلقى خلالها دروسا على يد الفنان جول لوفافر.
    يغلب على رسومات هذا الفنان الطابع الغنائي، وكان يميل إلى رسم المناظر الحضرية والطبيعة.
    ولطالما استهواه تصوير مدينة نيويورك بساحاتها المبللّة بالمطر وشوارعها وأشجارها وعربات النقل التي تجرّها الخيول.
    كانت الانطباعية تركّز على رسم المناظر في الهواء الطلق بعيدا عن الاستديوهات المغلقة.
    وكان على الفنان أن يعمل بسرعة وتلقائية لكي ينقل صورة الضوء المتغيّر دائما في منظر طبيعي. غير أن الأمر كان يتطلّب سرعة اكبر في حال رسم منظر لساحة أو شارع.
    وغالبا ما يكون العمل الناتج عن ذلك ضربا من الشعر الغنائي أو التصويري. وخير مثال على ذلك هذه اللوحة الشهيرة. فـ كورنوير لم يحقّق فقط هدفه الانطباعي الرامي إلى إظهار تأثيرات الضوء والجوّ في المشهد، وإنما نجح أيضا في إيصال صورة متعاطفة وإنسانية لسكّان المدينة.
    الناظر إلى هذه اللوحة لا يرى طبيعة صامتة وألوانا ناعمة فحسب، بل إن المشهد يكشف أيضا عن ألوان تضجّ بالحيوية، كاللون الأخضر الفاتح للأوراق الصغيرة التي تؤطّر الجزء العلوي من اللوحة واللون الزهري الفاتح كما تعكسه المباني في الخلفية.
    واللوحة تنزاح تدريجيا لتكشف عن لحظة إنسانية حقيقية يصبح الناظر مشاركا فيها. فهو يحسّ بالمطر الربيعي الدافئ ويتنسّم رائحة الهواء الطلق.
    والفنان يحاول من خلال هذا المنظر الشاعري الجميل أن يوصل إحساسا بالسعادة والأمل في صباح يوم ربيعي في المدينة.
    في بعض مراحل حياته، عمل كورنوير مدرّسا للرسم ومحاضرا في أكثر من معهد ومؤسّسة.
    وكان يتمتع بدقّة الملاحظة وهو يرسم وبتحكّمه الفائق بالألوان والظلال.
    وفي الكثير من مناظره تبدو الشوارع إما مغسولة بالمطر أو مغمورة بالضباب أو الثلج.
    وقد عاصر الفنان بعض أشهر الرسّامين في زمانه مثل وليام تشيس وتشايلد هاسام. كما عرض أعماله في الكثير من المتاحف والأكاديميات وصالات العرض وتلقى عددا من الجوائز.
    وتتوزّع لوحاته اليوم على العديد من المتاحف أهمّها متحف معهد بروكلين ومعهد كانساس وغاليري جامعة ييل.
    ومن أشهر لوحات كورنوير الأخرى منظر لميناء، وبدايات الربيع في سنترال بارك وأزهار التفّاح في النورماندي.

    شمـس الصـباح 
    للفنانة الأمريكية بوليـن بالمـر، 1920 


    من أهمّ انجازات الحركة الانطباعية هو أنها أفسحت المجال واسعا أمام المرأة كي تشتغل بالرسم. ويحتفظ تاريخ الانطباعية الفرنسية، على وجه الخصوص، بأسماء العديد من النساء اللاتي استطعن منافسة الرجال وأثبتن أنهنّ لسن بأقلّ موهبة واستعدادا من نظرائهن من الفنّانين الرجال. 
    وقد نجحت الرسّامات الانطباعيات في صياغة أسلوبهن الفنّي الخاصّ وتجاوز الأعراف والسلوكيات القديمة التي كانت تضع العراقيل في وجه اشتغال المرأة بالفنّ. ومن أشهر الأسماء النسائية التي برزت في أوساط المدرسة الانطباعية كلّ من بيرتا موريسو و إيفا غونزاليس وماري براكمون، وهنّ فرنسيات، بالإضافة إلى الأمريكيتين ميري كاسات وبولين بالمر. 
    كانت بولين بالمر واحدة من ألمع الرسّامات الأمريكيات اللاتي ظهرن في أوائل القرن الماضي. وقد عُرفت بكونها داعمة ومتبنّية بقوّة للمدرسة الانطباعية في الرسم. وحظيت بمؤازرة ودعم من والدها وزوجها اللذين شجّعاها على مواصلة تعليمها وصقل موهبتها. 
    ولدت بولين بالمر في ولاية الينوي الأمريكية ودرست الرسم في معهد شيكاغو للفنون. وكان من بين أساتذتها الرسّام الأمريكي المشهور وليام تشيس الذي نصحها بالذهاب إلى فرنسا لتنمية موهبتها والاطلاع على التجارب الفنّية الناشئة فيها. 
    وقد واتتها الفرصة في ما بعد للذهاب إلى باريس حيث درست على يد كل من كولين وكورتوا. كما عرضت لوحاتها في صالون باريس ونالت على بعضها عدّة ميداليات وجوائز. 
    وكانت بالمر قبل ذلك قد قضت سنوات طويلة في رسم الناس وتصوير مظاهر الحياة في مدينتها شيكاغو. ولوحاتها تتميّز بأناقة وجمال لافتين وتشي بموهبتها الكبيرة وبقدرتها الفائقة على الإمساك بالجمال الجسدي والسيكولوجي للناس وبالأجواء الداخلية للأماكن التي كانت ترسمها. 
    ولوحاتها تصوّر مواضيع مختلفة كالمناظر الطبيعية والشواطئ والحياة اليومية والبورتريه. وكانت توظّف في لوحاتها الأسلوب الواقعي حينا والانطباعي أحيانا. 
    وقد ربطتها علاقة صداقة مع عائلات الصيّادين الفقراء. وأصبح أفراد تلك العائلات موضوعا للعديد من لوحاتها. 
    بورتريهات بالمر تُعتبر أعظم انجازاتها. ومعظمها إما لنساء أو أطفال. وقد ركّزت في تلك البورتريهات على إبراز نقاء وبراءة الشخصية. في هذه اللوحة ترسم الفنانة صورة لامرأة تجلس في أولى ساعات الصباح أمام مرآة وتتفحّص هيئتها، بينما يتسلّل نور الشمس عبر زجاج باب خلفي. الألوان ناعمة ومتناغمة. وتأثيرات الضوء الطبيعي وامتزاجها بانعكاسات الألوان الحمراء والزرقاء والبيضاء والخضراء وتدرّجاتها تمنح انطباعا فنّيا عالي التوتر ومفعماً بالنور والشفافية. 
    النساء في معظم لوحات الرسّامة، ومنها هذه اللوحة، يظهرن بنظرات وملامح واثقة تعطي شعورا بالاستقلالية والاعتداد بالنفس، وهي فكرة ظلّت غالبا مقتصرة على الرجال دون النساء. 
    ويبدو أن بالمر، بحكم انتمائها إلى الطبقة الاجتماعية الرفيعة، كانت تستخدم لوحاتها لأغراض تمكين المرأة ودعم مكانتها في المجتمع، وفي الوقت نفسه انتقاد موضوع الجندر والأدوار التقليدية المناطة بكلّ من الجنسين. وهي أفكار كانت رائجة بين النساء وقتها. 
    على امتداد حوالي ربع قرن، ظلّت بولين بالمر تعرض لوحاتها في معهد شيكاغو للفنّ. وقد فازت بعدد من جوائز المعهد المرموقة. كما انتُخبت كأوّل فنّانة امرأة ترأس جمعية شيكاغو للفنّانين في العام 1918م. 
    وقبل ثلاث سنوات بيعت إحدى لوحاتها في مزاد في الولايات المتحدة بأكثر من مائة وعشرين ألف دولار. وفي السنوات الأخيرة ظهر كتاب يحمل عنوان "رسائل بولين بالمر" ويتضمّن مكاتبات الفنّانة مع والدتها والتي تشرح فيها بعض جوانب الحياة في شيكاغو في بداية القرن الماضي. كما تحكي في تلك الرسائل عن حياة عائلتها وأسفارهم الكثيرة في أوربّا. 
    توفيت بولين بالمر عام 1938 بالالتهاب الرئوي بينما كانت في رحلة إلى النرويج. 
    ولوحاتها تتوزّع اليوم على عدد من المتاحف والمجموعات الفنّية الخاصّة في أمريكا والعالم.

    تكويـن بالأصفــر والأزرق والأحمــر 
    للفنان الهولنـدي بِـيـت مـونـدريــان، 1921 


    يعتبر بيت موندريان أحد روّاد المدرسة التجريدية في الرسم. وقد اقترن اسمه بتطوير ما اسماه في ما بعد بالبلاستيكية الجديدة. وهي شكل من أشكال التجريد الذي يعتمد على رسم شبكة من الخطوط السوداء الأفقية والعمودية باستخدام الألوان الأساسية. 
    درس موندريان الرسم في مدرسة الفنون الجميلة بأمستردام. وعندما تخرّج عمل فيها مدرّسا. 
    وفي بداياته، أظهر ميلاً لرسم المناظر الطبيعية بأسلوب قريب من الانطباعية. غير انه في ما بعد تحوّل إلى الرسم التجريدي متأثّرا بدراسته للفلسفة والدين. 
    في ذلك الوقت، أي في نهايات القرن التاسع عشر، شاعت الأفكار الثيوصوفية؛ أي تلك التي تمزج ما بين الدين والفلسفة. 
    وظهرت نظرية تقول إن فهم الإنسان للطبيعة يمكن أن يتحقّق بشكل أعمق من خلال الوسائل غير التجريبية. 
    وفي مرحلة لاحقة، ابتكر هو ومجموعة من زملائه تيّارا فنيّا أسموه "الأسلوب". ولم يكن تأثير ذلك التيّار مقتصرا على الرسم، بل امتدّ ليشمل أيضا المعمار والمسرح وتصميم الأثاث. 
    في هذه اللوحة، نرى مجموعة من الخطوط المستقيمة والأشكال المستطيلة التي تتوزّع على بعضها الألوان الرئيسية الثلاثة، أي الأحمر والأزرق والأصفر. 
    يقول بعض النقاد إن هذه اللوحة تمثل بحث موندريان الدائم عن المعرفة الروحية والبساطة والتناغم المطلق ونقاء الألوان من خلال استخدام الأشكال والتكوينات الهندسية. 
    وثمّة من يذهب إلى القول إن اللوحة هي إحدى أهمّ لوحات القرن العشرين، بالنظر إلى تأثيرها الكبير في مجالي التصميم والعمارة الحديثة. 
    ويمكن النظر إلى لوحات موندريان باعتبارها بُنى رمزية تجسّد طبيعة رؤيته عن ثنائية الكون. فالعمودي عنده هو رمز للروحي والذكوري، والأفقي رمز للمادي والأنثوي. 
    من الواضح في اللوحة غلبة المساحات البيضاء على ما عداها. وقد كان موندريان يرى أن الأشكال البيضاء تعطي اللوحة ديناميكية وعمقا اكبر. وأصبحت هذه السمة أكثر وضوحا في لوحاته التي أنجزها في أخريات حياته. 
    كان موندريان يقول إن التجريد هو السبيل الوحيد للاقتراب من الحقيقة والعودة إلى الأصول والبدايات. لكن ذلك لا يتحقق ما لم يملك الرسّام قدرا عاليا من الوعي والحدس اللذين يمكّنانه من بلوغ أعلى درجات الإيقاع والتناغم. 
    عاش الفنان فترة من حياته في باريس التي التقى فيها بيكاسو وتأثر بالتكعيبية واستوعبها. غير أنها كانت مجرّد محطّة عابرة في مسيرته الفنية. 
    وعندما سقطت باريس وهولندا بيد النازية عام 1940، انتقل للعيش في لندن ومن ثم نيويورك التي ظلّ فيها حتى وفاته. 
    استخدم موندريان في جميع لوحاته الألوان الزيتية. وفي نسخ لوحاته الموجودة على الانترنت تبدو الألوان ذات أسطح ملساء مستوية. 
    غير أن ضربات الفرشاة تبدو واضحة في لوحاته الأصلية الموجودة في المتاحف، مثل متحف نيويورك للفنّ الحديث ومتحف تيت البريطاني. 
    وهناك الآن بعض المواقع الاليكترونية التي توظف برامج رسوميات وتقنيات أخرى متطوّرة لإعادة بناء لوحات بيت موندريان بل ورسم نسخ شبيهة بلوحاته مع بعض الاختلاف والتعديل. 
    وفي السنوات الأخيرة ظهرت فرضيّة تقول إن بوسع الكمبيوتر اليوم أن ينتج خطوطا وأشكالا وألوانا أكثر نقاءً وديناميكية وتناغماً ممّا يمكن أن يتحقق على رقعة الرسم العادية وباستخدام الألوان الزيتيّة.
     التوقيع 
    " إذا كنت ترغب في التحدث معي عرف ما تقول وحدد قولك " فولتير
  13. #43
    صورة عضوية ReX
    ReX 
    ReX غير متصل حالياًعضو مميز جداً
    تاريخ الانضمام
    06/12/2009
    الجنس
    ذكر
    المشاركات
    7,671

    افتراضي

    امـرأة تقشـر التفّــاح 
    للفنان الهولندي بيـتر دي هــوك، 1663 


    تعتبر هذه اللوحة أحد أهمّ واشهر الأعمال الفنية في تاريخ الفن الهولندي. رسم بيتر دي هوك امرأة تقشر التفاح في العام 1663، وتصوّر مشهدا منزليا من ذلك العصر، تظهر فيه امرأة مع طفلتها وهي منهمكة بتقشير التفاح. 
    أهم سمات هذه اللوحة هي التكنيك الفريد الذي استخدمه الفنان في تعاطيه مع الضوء، إذ نرى الضوء يتسلل عبر النافذة ليغمر الجزء المظلم من ديكور الغرفة. هذا الملمح الخاص دفع بعض مؤرخي الفن في البداية للاعتقاد بأن صاحب اللوحة هو يان فيرمير الذي عُرف عنه اهتمامه بالمناظر المنزلية وبراعته في تمثيل الضوء. لكن في ما بعد رجحت وجهة النظر الأخرى التي تعزو اللوحة إلى بيتر دي هوك الذي كان متأثرا في ما يبدو بأسلوب فيرمير. 
    ولد هوك في دلفت بهولندا وتتلمذ على يد كارل فايريتيوس. وفي الفترة من 1650 – 1660 أنجز هوك افضل أعماله الفنية التي أهلته للقب شاعر المناظر المنزلية الأكبر في هولندا. ولم ينافسه على هذا اللقب سوى فيرمير الذي كان ينتظم معظم لوحاته نمط واحد ومحدّد يتمثل في رسم امرأة وحيدة تقف أو تجلس في إحدى زوايا الغرفة، بخلاف دي هوك الذي كان يرسم مناظر عائلية جماعية. 
    نساء هوك هنّ في الغالب إما زوجات أو أمّهات أو خليلات، بصحبة أطفال وخدم. 
    وبشكل عام فإن لوحات الفنان تستمدّ موضوعاتها من مفردات البيت الهولندي من فراغات وملابس وديكورات وشبابيك يتسرّب منها الضوء لينعكس على الجدران والأثاث والأرضيات. ويمكن القول أن لوحات الفنان، بشكل عام، تقدّم صورة مصغّرة لما كانت عليه منازل الهولنديين في القرن السابع عشر. 
    من غير المعروف على وجه القطع تاريخ وفاة دي هوك، غير أن من شبه المؤكّد انه توفي في سن الخامسة والخمسين بعد أن قضى السنوات الأخيرة من حياته في مصحّ للأمراض العقلية.

    الأمّ الصغيرة أو مادونا الشوارع 
    للفنان الايطالي روبيـرتـو فيـروتـزي، 1897

    تُعتبر هذه اللوحة من بين أشهر اللوحات في العالم ومن أكثرها استنساخا ورواجا. كان روبيرتو فيروتزي يريد رسم صورة ترمز للأمومة ولهذا اسماها في البداية "مادونينا" التي تعني بالإيطالية الأمّ الصغيرة، ولم يكن بذهنه أبدا أن يرسم صورة دينية. لكن مع مرور السنوات أصبح الناس ينظرون إلى اللوحة كصورة ايقونية للعذراء وطفلها الرضيع. وربّما كان هذا الخلط سببا إضافيا في الشهرة والشعبية الدائمة التي اكتسبتها. 
    الموديل في اللوحة اسمها انجيلينا. كانت وقتها في الحادية عشرة من عمرها. والطفل الذي تحمله هو شقيقها الأصغر ذو الأشهر العشرة. كان الرسّام قد رأى الفتاة والطفل في فينيسيا ذات شتاء. كانت ترتدي ملابس ثقيلة وتحمل شقيقها إلى صدرها لحمايته من البرد. 
    ورغم أنها كانت ما تزال صغيرة السنّ، إلا أنها كانت تُظهر إحساسا عميقا بالأمومة وهي تحتضن الطفل. كان فيروتزي في ذلك الوقت في الأربعينات من عمره، وقد رأى انجيلينا فذهل لجمالها وبراءة ملامحها وقرّر أن يرسمها هي وشقيقها. 
    وعندما عُرضت اللوحة في بينالي فينيسيا من ذلك العام سرعان ما اكتسبت ثناء النقّاد واستحسان الجمهور ونال عليها الرسّام جائزة. وشيئا فشيئا، أصبحت اللوحة تُعامَل بشيء من القداسة واستنسخت آلاف المرّات لمناسبات أعياد الميلاد والزواج وغيرها من المناسبات الدينية والاجتماعية. وعلى مرّ السنين ظهرت منها نسخ معدّلة أضيف إليها غيوم وهالات مقدّسة كي تدعم التفسير الديني لها. 
    كان فيروتزي يريد تصوير لحظة من لحظات الحنان والعطف بين أخت وشقيقها، فرسم صورة خالدة تتحدّث إلى جميع الناس بعفويّتها وصدقها. الفتاة تظهر في اللوحة وهي تحمل شقيقها النائم على كتفها بسلام وتقف على أعتاب احد البيوت وكأنها تتوسّل من أهله المأوى أو الطعام. وأهمّ ما يلفت الانتباه في الصورة هو وجه الفتاة ذو الملامح الجميلة وعباءتها الخضراء وغطاء رأسها الذهبي وكذلك الملامح الملائكية للطفل النائم. 
    بعد بضع سنوات من رسم هذه اللوحة، تزوّجت انجيلينا وهي في سنّ التاسعة عشرة وغادرت مع زوجها ايطاليا إلى الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الأولى حيث استقرّا في كاليفورنيا. وقد عاشا هناك حياة مريحة وأنجبا عشرة أطفال. وفي عام 1929 توفّي زوج انجيلينا فجأة عن اثنين وأربعين عاما بعد إصابته بمرض مفاجئ. 
    وقد كافحت انجيلينا بعده كثيرا من اجل إعالة ورعاية أسرتها الكبيرة. لكن بفعل التعب والإجهاد، أصيبت بانهيار عصبيّ وقضت بقيّة حياتها في مصحّة نفسية. وقد اخذ أبناؤها الأصغر سنّا وأودعوا في ملجأ للأيتام. لكنهم ظلوا أوفياء لأمّهم حتى وفاتها في عام 1972. 
    إحدى بنات انجيلينا، واسمها ميري، أصبحت راهبة. وكانت تلحّ عليها أسئلة بشأن ماضي عائلتها وظروف موت والدها وجنون أمّها. كما كانت تتساءل عن أقارب والديها في ايطاليا وهل ما يزال احد منهم على قيد الحياة وماذا بإمكانهم أن يخبروها عن أسلافها. 
    وقد ذهبت ميري بالفعل إلى ايطاليا عام 1970م وعرفت مكان اثنتين من شقيقات والدتها، أي خالاتها. كانت الاثنتان في الثمانينات من عمرهما وكانتا قد فقدتا الأمل في معرفة ما الذي حدث لشقيقتهما بعد أن هاجرت مع زوجها إلى أمريكا. 
    إحدى الأختين أظهرت لميري صورة خاصّة لأمّها عندما كانت صبيّة وأخبرتها أن والدتها كانت موديل لوحة رُسمت في نهاية القرن قبل الماضي. وكانت ميري قد رأت نسخا من اللوحة، لكن لم يخطر ببالها أن المرأة التي تظهر فيها يمكن أن تكون أمّها. 
    عائلة ميري في الولايات المتحدة أدهشها الاكتشاف وقرّرت أن تتأكّد من القصّة. وبعد البحث والتقصّي، عرفوا مكان ابن شقيق الرسّام الذي كان ما يزال حيّا. واعتمادا على مذكّرات الرسّام الشخصية، ظهر دليل دامغ على أن والدة ميري كانت هي فعلا المرأة التي تظهر في اللوحة. كما تمّ التعرّف على الطفل الذي معها، وهو شقيقها الرضيع جيوفاني الذي كان عمره آنذاك عاما واحدا. 
    أثناء حياتها، لم تخبر انجيلينا أطفالها أبدا بأمر اللوحة وفضّلت أن تُبقي ذلك الأمر طيّ الكتمان لأسباب غير معروفة. غير أن عائلتها لا تبدو الآن سعيدة بعنوان اللوحة أي "مادونا الشوارع"، ربّما لأنه يشير بشكل غير مباشر إلى الدعارة. وترى العائلة أن العنوان الأصلي، أي الأمّ الصغيرة، يُعتبر أفضل. 
    وما يزال أحفاد انجيلينا يبحثون عن اللوحة الأصلية دون نتيجة. وهم يؤكّدون أنهم لا يطالبون بملكيّتها، وإنما يريدون رؤيتها ولمس ألوانها وتفاصيلها بحكم أن الرسّام كان يعرف جدّتهم وجدّهم عن قرب. 
    ويقال إن اللوحة الأصلية اختفت من ايطاليا أثناء الحرب العالمية الثانية وأنها قد تكون ضاعت أثناء رحلة بحرية في المحيط الأطلنطي. لكن هناك رأيا آخر يقول إن اللوحة قد تكون أخذت طريقها إلى إحدى المجموعات الفنّية الخاصّة في أمريكا. 
    كان روبيرتو فيروتزي معروفا في ايطاليا في السنوات الأخيرة من القرن الماضي. وقد ولد في فينيسيا عام 1853 لأب يعمل محاميا، ودرس الرسم في سنّ مبكرة. وفي مرحلة تالية انتظم كطالب في جامعة بادوا. لوحته هذه هي أشهر أعماله، لكنّ له أعمالا أخرى اقلّ شهرة تتوزّع على متحفي فينيسيا وتورين. وقد توفّي الرسّام في فينيسيا في فبراير عام 1934. 


    شـارع فـي بـريتـانــي 
    للفنان الإنجليزي ستانهـوب فوربــس، 1881 


    ولد ستانهوب فوربس في العام 1857 لاب ايرلندي وأم فرنسية. 
    وعندما انتقلت عائلته إلى انجلترا درس الرسم في الأكاديمية الملكية. وقد سافر بعد ذلك إلى فرنسا وقضى فيها سنتين تتلمذ خلالهما على يد جول باستيان لاباج الذي اشتهر بلوحاته التي تصوّر مشاهد من الريف وحياة الفلاحين. 
    هذه اللوحة تعتبر اشهر لوحات فوربس وهي أحد الأعمال الفنية المفضّلة لدى الكثيرين كما أنها هي التي أدّت إلى ذيوع اسم فوربس كرسّام مرموق. 
    وقد لقيت اللوحة نجاحا كبيرا عند عرضها لأوّل مرّة في الأكاديمية الملكية عام 1882م. 
    ووصف فوربس نجاحها بأنه نقطة تحوّل رئيسية في حياته. 
    رسم فوربس "شارع في بريتاني" عام 1881 أثناء إقامته في كانكال عاصمة مقاطعة بريتاني الفرنسية. واللوحة تصوّر شارعا أو بالأحرى زقاقا صغيرا اصطفّ على جانبيه عدد من النساء والفتيات المنهمكات في صنع وتجهيز المكانس وأدوات الجلي المنزلية. والموديل الرئيسية في اللوحة هي فتاة كانت تعمل في الفندق الذي كان يقيم فيه الفنان. 
    كانت اللوحة محطّ إعجاب النقاد آنذاك وإن كان بعضهم عاب عليها ضعف تمثيل الظلال وغلبة اللون الأزرق على البناء العام للوحة لدرجة أن بعضهم قال إن فوربس كان ينظر إلى الطبيعة بنظارات زرقاء. 
    فوربس كان منشدّا بقوّة إلى طبيعة الحياة في الريف، وكان يرسم بطريقة بسيطة وشفافة كلّ ما كانت تقع عليه عيناه. وقد اخذ عليه البعض انعدام الرؤى والأحلام في لوحاته، بالرغم من أنها تروق لكل شخص تقريبا ببساطتها وصدقها. 
    أسّس فوربس مدرسة نيولين للفنون عام 1899 وعمل محاضرا لبعض الوقت في الأكاديمية الملكية واستمر يرسم بقيّة حياته التي امتدّت تسعين عاما.
     التوقيع 
    " إذا كنت ترغب في التحدث معي عرف ما تقول وحدد قولك " فولتير
  14. #44
    صورة عضوية ReX
    ReX 
    ReX غير متصل حالياًعضو مميز جداً
    تاريخ الانضمام
    06/12/2009
    الجنس
    ذكر
    المشاركات
    7,671

    افتراضي

    بورتريه للفنانة في سيارة البوغاتي الخضراء 
    للفنانة البولندية تمـارا دي لـيمبـتسـكـا، 1925 


    تمارا دي ليمبتسكا هي أحد الرموز الكبيرة لما ُعرف بـ "الفن الديكوري Art Deco"، وهو أسلوب في الرسم يمزج بين التكعيبية والمستقبلية، وقد وصل ذروته في باريس في ما بين عامي 1925 و 1935 . 
    ولدت دي ليمبتسكا في روسيا لعائلة بولندية موسرة، وبعد طلاق أبويها عاشت في كنف جدّتها التي وفّرت لها، هي الأخرى، حياة مرفّهة ومريحة. 
    وبعد نشوب الحرب بين الألمان والروس في 1914، وقعت دي ليمبتسكا في حبّ محام بولندي اسمه تاديوش لمبتسكي، وبعد زواجهما هاجرا إلى فرنسا. 
    في باريس درست دي ليمبتسكا الفن الديكوري واصبحت خلال فترة قصيرة رسامة بورتريه ُيشار لها بالبنان. 
    كان الفن الديكوري جزءا من الحياة الباريسية المتميّزة بالغرابة والإثارة والأضواء. وهذا أدى بالتالي إلى رفع حظوظ الفنانة على المستويين الاجتماعي والفني. 
    وقد رسمت دي ليمبتسكا بورتريهات لكتاب وفنانين وعلماء ونبلاء، ومع الأيام اتسعت شهرتها واصابت الكثير من النجومية والثروة. 
    وقبيل نشوب الحرب العالمية الثانية هاجرت الفنانة من باريس إلى امريكا، وذهبت إلى هوليوود لتصبح الفنانة المفضلة عند نجوم ونجمات هوليوود. 
    في أمريكا تركّز الاهتمام اكثر على شخصية دي ليمبتسكا التي تشبه ملامحها ملامح الممثلة غريتا غاربو ، وكانت حفلاتها الصاخبة ونزواتها الغريبة حديث أوساط المجتمع هناك بينما لم تنل لوحاتها كبير اهتمام يذكر. 
    وفي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ومع ظهور موجة التعبير التجريدي وتقدّم دي ليمبتسكا في العمر، توقّفت عن الرسم وانحسرت عنها الأضواء ولم يعد أحد يذكرها سوى بالكاد. 
    لكن مع عودة الاهتمام مجدّدا بالفن الديكوري ورسم الأشخاص، أعيد اكتشاف تمارا ليمبتسكا من قبل أوساط الفنانين والنقاد. 
    أعمال دي ليمبتسكا هي مزيج من البذخ والتخلّع والتمرّد، وتلك كانت سمات المجتمع الباريسي في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين. وفي لوحاتها تركيز على الزخرفة اكثر من الجوهر أو المضمون. ومن أهم ملامح أسلوبها الفني براعتها في رسم الأشكال الناعمة والمستديرة والخطوط المعمارية التي تعكس الجانب الحضري للمجتمع واستخدامها القوي للألوان والأشكال ذات الحوافّ الحادة، واظهارها أطراف النساء على هيئة أشكال أنبوبية أو أسطوانية. 
    ويمكن اعتبار لوحاتها، بشكل عام، بمثابة احتجاج ضدّ النظرة الدونية التي كانت ُتعامل بها الأنثى في زمانها. 
    هذا البورتريه الذي رسمته تمارا دي ليمبتسكا لنفسها يعتبر اشهر أعمال الفنانة وأكثرها استنساخا وظهورا في العديد من المجلات والكتب، وفيه تظهر بهيئة المرأة المتحرّرة التي تقود سيارتها بكبرياء وتحدّ وثقة. وقد ظهر البورتريه لاول مرّة على غلاف إحدى مجلات الموضة التي كلفت الفنانة برسمه، ليصبح في ما بعد ايقونة ترمز لتحرّر النساء واستقلالهن. 
    في عام 1978 وبعد رحيل زوجها الثاني، انتقلت دي ليمبتسكا من أمريكا لتعيش بشكل دائم في المكسيك. وهناك أحسّت باليأس والإحباط جرّاء تقدّمها في السّن وغروب جمالها واصبحت تفضّل مصاحبة الفتيان اليافعين وكانت دائمة الخصام والتحدّي حتى النهاية. 
    وفي مارس من العام 1980 توفيت دي ليمبتسكا بينما كانت نائمة في بيتها، وكانت ابنتها الوحيدة إلى جوارها. وُنفّذت وصيّتها في أن ُتحرق جثتها وُينثر رمادها فوق قمة بركان بوبوكاتيبتل في المكسيك.



    القـــط الأســـود 
    للفنان السويسري تيوفيـل شتـاينـليـن، 1890 


    رغم بساطة هذه اللوحة وطبيعتها الكاريكاتورية الواضحة، فإنها أصبحت منذ ظهورها في نهايات القرن التاسع عشر أحد أشهر الأعمال الفنية العالمية وأكثرها انتشاراً ورواجاً. 
    واللوحة هي عبارة عن بوستر ُكلّف تيوفيل شتاينلين برسمه ليروّج لجولة لأحد أصدقائه الفنّانين نظّمها مقهى مشهور في باريس. 
    وكان المقهى، واسمه القطّ الأسود، ملتقى للفنّانين والشّعراء في ذلك الوقت وفيه كانت ُتقام حفلات موسيقية وعروض لمسرح الظلّ. 
    في اللوحة يطلّ قطّ بشعر مجعّد وعينين صفراوين متوهّجتين وهو جالس أمام خلفية برتقالية اللون. 
    وقد رسم الفنان البوستر في وقت شهد إعادة الاعتبار للقطط بعد أن كانت تُقرن في أوربا بطقوس السحر والشعوذة. 
    ومثل مود لويس، كان شتاينلين يحبّ القطط كثيرا وقد ظهرت في العديد من رسوماته. 
    ولد الفنان في لوزان بسويسرا عام 1859 ثم انتقل إلى باريس عام 1882 وأصبح جزءاً من مجتمع الفنانين والأدباء في حيّ مونمارتر الشعبي. وكان معاصراً لبيكاسو وموديلياني وماتيس ورينوار. 
    في باريس عمل شتاينلين لأكثر من عشرين عاما مستشاراً ورسّاماً لعشرات المجلات الثقافية في ذلك الوقت. وتتضمّن لوحاته مشاهد لنساء وطبيعة وحيوانات. لكنه كان يركّز بشكل خاصّ على الهموم الاجتماعية والقضايا السياسية مثل العدالة والفقر والحروب والمجاعة. 
    وفي مرحلة من المراحل أنجز رسومات تنتقد بقسوة بعض العلل والآفات الاجتماعية وكان يذيّل تلك الرسومات باسم مستعار لكي يتجنّب غضب الساسة ورجال الدين. 
    توفي شتاينلين عام 1923 وتوجد أعماله اليوم في عدد من المتاحف الفنية الكبرى في العالم مثل متحف الارميتاج في روسيا والناشيونال غاليري في لندن. 
    المعروف أن القط الأسود هو فصيلة من القطط الهجينة التي تتصف بفروها الأسود. وتذهب بعض المعتقدات التي كانت شائعة في العصور الوثنية إلى أن القط الأسود هو بشير فأل وعلامة على الحظ الحسن. 
    لكن في بعض ثقافات العالم يقترن القط الأسود بالشرّ نظرا لارتباطه بطقوس ممارسة السحر. 
    ومنذ نهاية القرن الثامن عشر أصبح رمزا للأفكار والدعوات الفوضوية. 
    في العصر الحديث أصبح القطّ في الثقافة والفنّ يرمز للشِعر وأحيانا للرّغبة. 
    وقد اختار الشاعر والأديب الأمريكي إدغار آلان بو القطّ الأسود عنوانا لإحدى قصصه القصيرة.


    انتظــار 
    للفنان البلغاري فاليـري تسيـنـوف، 2007 


    بعض الأعمال التشكيلية تنظر إليها فتجذب انتباهك وتأسرك من اللحظة الأولى. وعندما تتأمّلها عن قرب تدرك أنها مختلفة وأنها تتضمّن قدرا كبيرا من الأصالة والابتكار. 
    وهذا الوصف ينطبق على لوحات فاليري تسينوف. 
    يكفي أن ترى إحدى لوحاته مرّة، ثم سيسهل عليك بعدها التعرّف على لوحاته الأخرى تلقائيا حتى عندما لا تكون ممهورة باسمه. 
    والحقيقة انه يصعب كثيرا وصف أعمال هذا الفنّان أو تصنيفها ضمن مدرسة أو تيّار أو أسلوب فنّي بذاته. 
    صحيح أنها تتضمّن سمات تجريدية وتعبيرية. غير أنها بنفس الوقت لا تخلو من مضامين رمزية. 
    كأن هذا الفنّان وهو يرسم يريد منك أن تأتي إليه ومعك تجاربك الشخصية والخاصّة. والطبيعة بالنسبة لـ فاليري تسينوف هي أعظم مصادر الإلهام. كما انه يعشق التنوّع في كلّ شيء. وهذا ليس بالأمر المستغرب. فقد ولد في بلغاريا منذ خمسين عاما. والثقافة البلغارية معروفة منذ القدم بتنوّعها وامتزاجها بالعديد من المؤثّرات الحضارية من الشرق والغرب. 
    لذا تبدو أعماله وكأنها تحمل رسالة حضارية عن أهمّية وثراء امتزاج الثقافات وتفاعلها في ما بينها. 
    فاليري تسينوف يعتبره الكثيرون اليوم ظاهرة في الرسم البلغاري. وقد درس الرسم في أكاديمية صوفيا للفنون وأقام معارض للوحاته في ألمانيا وسويسرا وفرنسا وغيرها من البلدان الأوربية. وقد أهّله تميّزه الفنّي لنيل أكثر من جائزة. 
    لوحات تسينوف إجمالا تتميّز بهدوئها وسكونها الغريب الذي ينعكس على ملامح نسائه الخالدات بوجوههنّ التي تشبه الايقونات. أحيانا يبدين مبتسمات. وأحيانا أخرى حزينات أو متأمّلات، بينما يأخذن الناظر إلى عالم من السحر والغموض يقع على الحدّ الفاصل ما بين الواقع والحلم، وبين الماديّ والروحي. 
    في هذه اللوحة يرسم تسينوف امرأة تمسك بكأس وتجلس متأمّلة على أريكة. 
    الألوان ساحرة. اللون الأحمر هو المهيمن هنا. الخلفية مليئة بالأنماط والنقوش والأشكال. طيور، أباريق، أزهار وأشجار. 
    في الجهة العلوية فواكه حمراء تشبه الكرز. وهناك حصان. 
    الخيول تتكرّر كثيرا في لوحات تسينوف. هل يكون الحصان رمزا للرجل الذي لا نجد له وجودا في جميع لوحات هذا الرسّام؟ 
    الرموز الطافية والأشكال النقيّة والمجالات اللونية المتراقصة على امتداد مساحة اللوحة تخلق ارتباطات شاعرية وروحية في ما بينها. والمزج ما بين الشكل والمضمون فيه تناغم ومثالية. 
    من الواضح أن الرسّام يطوّع الإمكانيات التعبيرية للرموز من اسماك ومفاتيح وطيور وقواقع وأوان فخارية وفواكه وأزهار وخيول كي يشير إلى ما هو ابعد من الواقع الملموس. 
    هل نحن إزاء كشوفات روحية؟ محاولة للبحث عن الجمال في العالم؟ 
    هل تكون لوحات فاليري تسينوف انعكاسا لنظرة الرسّام الفلسفية إلى العالم والتي يحاول من خلالها استكناه أسرار الوجود والبحث عن معنى باطني للأشياء واكتشاف العلاقة بين العوالم المنظورة والخفيّة؟ 
    ثمّة طقوسية وبدائية ورمزية واضحة في لوحات تسينوف. وهي ولا شك تشيع السعادة وتبعث على التفاؤل والأمل. كما أنها تذكّرنا بأن الرسم، مثل الموسيقى، يمكن أن يأخذنا إلى عالم من الأحلام والفتنة.
     التوقيع 
    " إذا كنت ترغب في التحدث معي عرف ما تقول وحدد قولك " فولتير
  15. #45
    صورة عضوية ReX
    ReX 
    ReX غير متصل حالياًعضو مميز جداً
    تاريخ الانضمام
    06/12/2009
    الجنس
    ذكر
    المشاركات
    7,671

    افتراضي

    الرحـلة الأخيـرة 
    للفنان الروسي فاسيـلي بيـروف، 1865

    يُعتبر فاسيلي بيروف مؤسّس تيّار الواقعية النقدية في الفنّ الروسي. وقد عاش في عصر اتسم بالتغيير الاجتماعي والانتعاش الاقتصادي. وفنّه يحمل نقدا حادّا لمظاهر المدنيّة الحديثة. لكنّه كثيرا ما يُنتقد بسبب تركيزه على الجوانب المظلمة من الحياة. 
    والناس إذ يتذكّرون هذا الرسّام اليوم إنّما يتذكّرونه بلوحاته التي تصوّر الطبقة الطفيلية وفساد الإدارة البيروقراطية واستبداد الساسة وجشع التجّار ونفاق رجال الدين. 
    كان بيروف مدافعا دائما عن الناس العاديّين ومراقبا دقيقا لأنماط السلوك الإنساني بشكل عام. ولوحاته تستثير تعاطف الناس مع حياة الأفراد الذين يعانون من الإذلال وفقدان الكرامة الإنسانية بسبب قسوة المجتمع. 
    في هذه اللوحة، ينقل الرسّام إحساسا بمعنى الفقد أو الموت. إذ نرى امرأة، برفقة طفليها، وهي تنقل جثمان زوجها إلى مثواه الأخير في كفن موضوع فوق عربة يجرّها حصان. 
    وجه الأرملة غير واضح في الصورة لأنها تعطي ظهرها للناظر. لكنّ كتفيها المنحنيين يتحدّثان ببلاغة عن حزنها وعمق مأساتها. وضعية جلوسها متناغمة مع حركة الحصان الذي يجرّ العربة. والحصان، هو الآخر، كأنّما يحسّ بعمق الفجيعة على فراق صاحبه. 
    ومن الواضح أن لا أصدقاء يرافقون الميّت في رحلته الأخيرة في هذه البرّية الباردة والخاوية والمغطّاة بالثلج باستثناء زوجته وطفليه الذين يبدون متجمّدين من شدّة البرد. وثلاثتهم متوحّدون في هذه الصورة من صور الإحساس بالحزن. 
    الابن، إلى اليسار، يرتدي قبّعة ومعطفا وفي عينيه وملامحه آثار حزن وإنهاك، بينما تحتضن أخته التابوت. شكل الطبيعة الخاوية والمتجهّمة والسماء المنخفضة والسحب الداكنة والثقيلة والأطراف المتجمّدة للغابة، كلّها عناصر تعزّز درجة الإحساس بحزن وكآبة المنظر. وهناك أيضا غلبة اللون الرمادي بتدرّجاته المختلفة والذي يعطي انطباعا بالبرد القاتل. 
    اللوحة بسيطة في شكلها وكاملة في مضمونها، أي لا شيء فيها ناقص أو زائد عن الحاجة. وهي لا تحكي فقط قصّة حزينة عن مصير عائلة فقيرة تُركت وحيدة بعد رحيل معيلها، بل أيضا عن مصير ملايين الفلاحين والمحرومين الذين يعانون ظروفا مماثلة. 
    موضوع اللوحة استوحاه بيروف من قصيدة للشاعر الروسي نيكراسوف يتحدّث فيها عن جنازة تقام لرجل في منتصف فصل الشتاء. لكن يقال أن اللوحة أكثر إثارة للحزن من القصيدة، إذ لا جيران هنا ولا معارف أو أصدقاء. 
    ويُرجّح أن الرسّام رأى مرارا جنازات لفلاحين وعمّال في رحلاته ومشاويره اليومية من وإلى بلدته. كما أن معرفته القويّة بظروف معيشة الطبقة العاملة مكّنته من أن ينجح في تحويل فكرة عاديّة ومألوفة إلى عمل فنّي من الطراز الرفيع يجسّد مأساة الإنسان. وقد وضع عدّة اسكتشات تمهيدية للوحة وتجوّل في العديد من القرى وراقب مناظر الخيول التي تجرّ عربات الجليد التي تنقل الأشخاص أو أكفان الموتى. 
    كان بيروف أوّل فنّان روسي يرسم صورة حقيقيّة عن الحزن والفقر المدقع وقسوة حياة الفلاحين وسكّان الأرياف. وقد اكتسبت لوحته هذه شهرة عالميّة وحقّقت نجاحا كبيرا بين معاصريه. ونال عليها جائزة جمعية تشجيع الفنون، كما عُرضت مرارا في معارض فنّية داخل روسيا وخارجها. 
    ولد فاسيلي بيروف في يناير من عام 1834، وتعلّم الرسم في مدرسة موسكو للفنّ. وفي ما بعد زار ألمانيا وفرنسا ورسم بعد عودته إلى موسكو مناظر مستوحاة من أجواء الشوارع الأوربّية. وهو معروف بتوليفاته الواضحة والبسيطة التي يميّزها لجوؤه المتكرّر للون الواحد، أو المونوكروم، رغم انه كان معلّما بارعا في التلوين. وقد تلقّى الرسّام لقب أكاديمي ثم عُيّن أستاذا للرسم بمدرسة موسكو للفن. وظلّ يمارس التدريس إلى حين وفاته بالسلّ في يونيو 1882. 

    زواج غيـر متكـافـئ 
    للفنان الروسي فاسيـلي بيوكيـريف، 1862

    يُعتبر فاسيلي بيوكيريف احد أهمّ الرسّامين الذين وضعوا الأساس للمدرسة الواقعية في الرسم الروسي التي كانت تتناول بالنقد بعض الجوانب السلبية من الحياة، مثل الأعراف البالية والتقاليد الاجتماعية القاسية. 
    لوحته هنا تُعتبر أشهر وأفضل أعماله. وفيها يصوّر مراسم زفاف طرفاه رجل مسنّ تقاعد للتوّ من الخدمة العسكرية وفتاة صغيرة تبدو غير سعيدة بهذا الزواج. 
    اللوحة تكشف عن قسوة التقاليد الاجتماعية وفساد البيروقراطية، وتعكس نضال المجتمع من اجل الإصلاح في روسيا. ويبدو أن هدف الفنّان من رسمها هو إيقاظ ضمير المجتمع والدفع باتجاه التغيير الاجتماعي. 
    الزواج غير المتكافئ كان أمرا شائعا في روسيا في ذلك الوقت. وهناك أغان فولكلورية مليئة بالحزن والحداد تتحدّث عن الظلم الفادح الذي يقع على المرأة بسبب مثل هذا الزواج. كما تناولَ هذه الظاهرة العديد من الكتّاب، بمن فيهم الشاعر بوشكين الذي أشار إليها في أكثر من قصيدة. 
    وقد انتقلت الفكرة إلى الرسم بعد وقت طويل من معالجتها في الأدب، وذلك للتأكيد على ما يجلبه هذا النوع من الزيجات من مآسٍ ومعاناة. 
    في اللوحة يأخذنا الرسّام إلى مسرح القصّة، وهو صحن كنيسة ذات أنوار باهتة. السقف تزيّنه ثريّات من البرونز. الضوء الخافت المنبعث من الزاوية اليسرى يضيء العتمة وينعكس على وجوه الحاضرين. إلى اليمين تقف العروس الصغيرة، وإلى يمينها العريس الكهل ثمّ الكاهن الذي يبارك العروسين. 
    العريس يبدو بلا قلب. نظرته الجانبية قويّة ومتفرّسة. بينما تقف العروس وهي شاردة الذهن، حزينة ويائسة. 
    يقال إن الحادثة حقيقية، وأن الرسّام شهدها بنفسه قبل عام من رسمه اللوحة. كانت الفتاة تحبّ شابّا من نفس طبقتها، لكن عائلتها أجبرتها على الزواج من الرجل الكهل لأنه ثريّ ويعمل بالتجارة. 
    رسم الفنّان الزوج بملامح فظّة وصارمة، بينما جعل العروس تبدو بريئة مثل طفلة. على ياقة الرجل هناك ما يشبه الوسام، بينما يضع على صدره نجمة. من الواضح انه يعي تماما أهميّته ومكانته الاجتماعية. ورغم انه يرى دموع الفتاة وبؤس حالها، إلا انه لا يبدي كبير اهتمام بما يجري ويكتفي بتحريك عينيه جانبياٍ. 
    مهارة الرسّام تتبدّى في طريقة تصويره لبراءة الفتاة. عيناها متورّمتان من كثرة البكاء، كما أنها لا تنظر إلى الكاهن الذي يستعدّ لإلباسها الخاتم، وتبدو كما لو أنها تفقد قوّتها ببطء. حتى الشمعة التي تحملها في يدها اليسرى يُخيّل للناظر أنها على وشك أن تسقط. هذا الزواج يبدو صفقة أو مقايضة أكثر من كونه علاقة إنسانية. 
    مهارة الرسّام واضحة في إظهار تفاصيل الملابس وتمثيلها بدقّة، وخاصّة رداء الكاهن المنسوج من الذهب والأزهار الفضّية، وفستان العروس المنسوج من الساتان. 
    جانب آخر من جوانب إبداع الفنّان يتجلّى في أسلوب تعامله مع وضعية الكاهن في اللوحة، فقد جعله ينحني كي يفسح المجال لظهور الأشخاص الآخرين في الخلفية. 
    بيوكيريف قسّم الشخصيات إلى مجموعتين: مجموعة العريس ومجموعة العروس. 
    المجموعة الأولى، إلى يسار اللوحة، أعطاها سمات سلبية، فهم ينظرون ببرود وبلا مبالاة. المرأة العجوز خلف العريس، والتي لا يظهر سوى جزء من وجهها، يبدو أنها هي التي رتّبت له الزواج واختارت العروس. 
    المجموعة الثانية هم مجموعة العروس المتعاطفون معها. الشابّ عند طرف اللوحة الأيمن ربّما يكون صديقا قديما للفتاة وقد يكون احد معارفها. وجهه فيه وسامة ونبل لا تخطئهما العين. وليس من الصعب قراءة تعابير وجهه. من الواضح أن نظراته تنمّ عن قدر من الامتعاض وعدم الرضا. 
    هذه لوحة ناضجة ومكتملة، والرسالة التي تحاول إيصالها واضحة ومباشرة. والرسّام يدعو المتلقّي لأن يكون جزءا من الممثّلين وأن يشارك في المشهد. ولكي لا يُبعِد المتلقي عن الموضوع الأساسي، اكتفى الرسّام بعدد محدود من المشاركين. غير أن لكلّ منهم دوره الفاعل والمهم. كما أن حضورهم وطبيعة علاقاتهم البينية تُثري مضمون القصّة. 
    ولد الرسّام فاسيلي بيوكيريف في موسكو في يونيو من عام 1832 لعائلة من الفلاحين، ودرس الرسم في مدرسة موسكو للرسم والنحت والعمارة. 
    بعض لوحاته عبارة عن بورتريهات لأشخاص، والبعض الآخر يعالج موضوعات اجتماعية وتاريخية. ولوحاته تتوزّع اليوم على عدد من أشهر المتاحف في روسيا وخارجها. توفّي الرسّام في موسكو عام 1890 عن 58 عاما. 

    تمجيــد الحــرب 
    للفنان الروسي فاسيلـي فيرتشـاغين، 1871 


    من المؤكّد أن هذه اللوحة ليست مما يسرّ النفس أو يبهج الخاطر. ومع ذلك فهي مشهورة ومألوفة كثيرا. وخلافا لما قد يوحي به العنوان، فإن اللوحة تعتبر صرخة مدوّية بوجه الحرب وإدانة قويّة وبليغة للطبيعة المتوحّشة للحروب وما تجلبه على الإنسانية من ويلات وكوارث. 
    وجانب من أهميّة اللوحة يتمثّل في أن من رسمها كان جنديا شارك في العديد من المعارك والعمليات العسكرية وشاهَدَ عيانا مآسي الحروب وويلاتها أثناء خدمته في جيش بلاده. 
    اشتهر فيرتشاغين برسوماته الحربية والعسكرية. وقد كان جنديا لكنه كان بنفس الوقت رسّاما قويّ الملاحظة ومثقفا ذا نزعة إنسانية واضحة. 
    في اللوحة نرى هرَما من جماجم البشر الذين قتلوا في الحرب. وفي الخلفية أطلال بلدة مدمّرة وبقايا أشجار محترقة أو متفحّمة. وفوق الجماجم المكدّسة وفي ما بينها تتجوّل مجموعة من الغربان والجوارح الجائعة التي تبحث في بقايا العظام عما تسدّ به رمقها. 
    المشهد صادم وقاس ولا شكّ. لكنه يفتن بجماله المخيف إذا تمعنّا في معناه ومدلوله الفلسفي والأخلاقي. 
    وقد حرص الرسّام على أن يذيّل اللوحة بعبارة تقول: مهداة إلى جميع الغزاة في الحاضر والماضي وإلى أولئك الذين سيأتون في المستقبل". 
    كان فيرتشاغين يتبنّى على الدوام موقفا معاديا للحرب. كما كان دائم الانتقاد للساسة وللقادة العسكريين الذين يتحمّلون المسئولية الأخلاقية عن موت الأبرياء من البشر بلا قضيّة أو مبرّر. 
    وكان الفنّان صريحا جدّا وهو يرسم. فالأبطال الذين يظهرون في لوحاته العنيفة هم من الجنود الروس بملامحهم وأزيائهم وأسلحتهم. وهذا أوقعه في مشاكل كثيرة. إذ اعتبرت لوحاته إدانة صريحة وواضحة للحروب التي كانت تشنّها روسيا. وقد اتهم فيرتشاغين في بعض المرّات من قبل العسكر وقادة الجيش انه بلوحاته لا يخدم سوى الأعداء بتعمّده تشويه صورة الجيش داخل البلاد وخارجها. 
    بل لقد حظرت الدولة القيصرية جميع رسوماته ومنعتها من النشر أو العرض، حتى بعد أن ذاع اسمه واشتهر خارج روسيا. 
    كانت الحروب وما تزال موضوعا رائجا في الفنّ والأدب. فالأوّل يقدّم توصيفا شفهيا لها، بينما الثاني يعرض صورة الحرب بطريقة صادمة وأحيانا جذّابة. 
    وفي العصر الحاضر، راجت الكثير من الأعمال الأدبية والفنية والسينمائية التي تتحدّث عن "جماليات الحرب" بشكل يتلاعب بالمشاعر ويدغدغ الغرائز. وقد وجدت هذه الأعمال وما تزال الكثير من الشعبية والجاذبية في الكثير من الأوساط. ويفسر البعض إقبال قطاعات معيّنة من الناس عليها بأن دافعه المحافظة على الذات أو التعويض عن ميول عدوانية مكبوتة أو انه محاولة لتعزيز قدرة الفرد على البقاء والتحمّل في أوضاع الصراع. غير أن المال يعتبر عاملا مهمّا. فهناك ساسة وعسكر ومنتجون سينمائيون يتكسّبون من وراء الترويج للقتل وسفك الدماء وتقديم الحرب في قالب مثير ولا يخلو من رومانسية. 
    رسم فيرتشاغين هذه اللوحة أثناء مشاركته في الحرب الروسية على تركستان وحصار سمرقند في العام 1876م. ومن المرجّح انه استوحى فكرتها من سيرة حياة القائد المغولي تيمورلنك الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي. 
    وقد شاع عن ذلك القائد انه كان في غزواته الكثيرة لا يغادر قرية أو مدينة مرّ عليها جنده دون أن يشيّد فيها هرَما من جماجم البشر الذين كان يقتلهم في حروبه. 
    غير أن دلالة اللوحة تمتدّ إلى ما هو ابعد من سياقها التاريخي. حيث أصبحت مع الأيام رمزا لكلّ الحروب التي لا تخلف سوى الموت والخراب. 
    واللوحة تذكّرنا بلوحات أخرى مماثلة لا تقلّ شهرة مثل معركة انغياري لـ ليوناردو دافنشي والثالث من مايو لـ فرانشيسكو دي غويا ووجه الحرب لـ سلفادور دالي وغورنيكا لـ بابلو بيكاسو. كما يثير شكل اللوحة بعض المقاربات المعاصرة لعلّ أشهرها المذابح التي ارتكبها بول بوت والخمير الحمر في كمبوديا. 
    بالإضافة إلى لوحاته عن الحرب، ُعني فيرتشاغين بتصوير جور النظام الإقطاعي وجنايته على الفقراء والطبقات المعدمة. كما رسم لوحات أخرى تصوّر طبيعة آسيا الصغرى وتتضمّن مناظر لسهول ومروج وجبال عالية تكلّل قممها الثلوج. 
    وفي بعض الأوقات دفعه حبّ الاستكشاف للذهاب إلى الهمالايا والهند والتيبت وسوريا وفلسطين. كما زار ميونيخ وباريس التي درس فيها لبعض الوقت على يد ليون جيروم. 
    وهناك من يقول إن سلسلة لوحاته التي رسمها عن حملة نابليون على روسيا هي التي ألهمت الروائي الكبير ليو تولستوي كتابة روايته المشهورة "الحرب والسلام". 
    في خريف العام 1904 تلقى فيرتشاغين دعوة من احد أصدقائه القدامى الذي كان يعمل ربّانا لإحدى البوارج الروسية خلال الحرب الروسية اليابانية. وأثناء إبحار البارجة في البحر الأصفر اصطدمت بلغم أدّى إلى غرقها وغرق معظم من كانوا على متنها، بمن فيهم فيرتشاغين وصديقه.
     التوقيع 
    " إذا كنت ترغب في التحدث معي عرف ما تقول وحدد قولك " فولتير
  16. #46
    صورة عضوية ReX
    ReX 
    ReX غير متصل حالياًعضو مميز جداً
    تاريخ الانضمام
    06/12/2009
    الجنس
    ذكر
    المشاركات
    7,671

    افتراضي

    ديكـور منـزلـي وامـرأة شـابـّة 
    للفنـان الدانمـركي وليـام هَمَـرشُـوْي، 1904 


    ترتبط الدانمرك في الأذهان بجملة من الأشياء والانطباعات. ففيها أقدم نظام ملكي في العالم. وهي بلد قبائل الفايكنغ والملك هاملت والكاتب هانس كريستيان اندرسون والفيلسوف الوجودي كيركغارد. كما أنها بلاد شمس منتصف الليل وتمثال عروس البحر الصغيرة وليالي الشتاء الباردة والطويلة بما تثيره من إحساس بالحزن والوحدة والكآبة. 
    ومن بين من كتبوا عن الدانمرك الأديب البريطاني في إس نيبول الحائز على جائزة نوبل للأدب والذي أقام في الدانمرك فترة. 
    يقول: إذا كنت مهتمّا بالذهاب إلى مكان مرعب فأوصيك بالدانمرك. هناك لا أحد يجوع، والناس يعيشون في بيوت صغيرة وجميلة. لكن لا احد غنيّ. ولا أحد يملك فرصة أن يعيش حياة باذخة. وكلّ شخص مكتئب! 
    إنهم يعيشون في زنازين محكمة التنظيم مع مفروشاتهم الدانمركية ومصابيح الإضاءة الأنيقة التي بدونها يمكن أن يصابوا بالجنون". 
    وبصرف النظر عمّا إذا كان كلام نيبول صحيحا أو أن فيه شيئا من المبالغة الساخرة، فإنه يمكن القول إن لوحات وليام همرشوي، أكبر وأشهر رسّام دانمركي بل واسكندينافي، تقدّم صورة واقعية إلى حدّ كبير عن طبيعة الحياة في الدانمرك. كما أنها تشكّل انعكاسا لشخصية هذا الفنان ونمط شخصيته. فقد كان همرشوي إنسانا خجولا، متكتّما وغامضا مثل لوحاته. وبخلاف هذا، لا تتوفر الكثير من المعلومات عنه. لكن من المرجّح أنه عاش حياة مريحة بفضل خلفيته البورجوازية واشتغال والده بالتجارة. 
    وأجواء رسوماته تذكّرنا بلوحات مواطنه الفنان كارل هولسو Carl Holsoe وبلوحات كلّ من يوهان فيرمير وإدوارد هوبر. 
    في هذه اللوحة الجميلة يرسم همرشوي زوجته "آيدا"، وهي بنفس الوقت الموديل التي تظهر في جميع لوحاته. 
    وهي هنا تبدو واقفة وظهرها للناظر، أي أننا لا نرى ملامح وجهها ومن ثمّ يصعب التعرّف على طبيعة انفعالاتها في تلك اللحظة. 
    لكن بوسع المرء أن يكتشف أننا أمام منظر ينفتح على عالم من الصمت والسكون ويثير إحساسا بالعزلة والتذكّر الحزين. 
    حتى الديكور نفسه ساكن، بارد ومنعزل. والألوان في اللوحة هي ألوان همرشوي المفضّلة دائما، أي ذلك المزيج المتدرّج والناعم من الرمادي والأسود والأبيض. 
    ورغم أناقة هذه الألوان وتناغمها الرقيق والشائك، فإنها لا تعمل إلا على تعميق الإحساس بالهجر والانفصال والكآبة. 
    لكن المشهد شاعري وحالم إلى حدّ ما. تنظر إلى هذه المرأة، بجسدها الضئيل وفستانها الداكن وانحناءة رأسها الخفيفة، فيخيّل إليك أنها تعيش في عالم آخر يتجاوز حدود الفضاء الفيزيائي الضيّق الذي تقف فيه. 
    ومع ذلك، فهي تبدو مطرقة، حزينة، جامدة وشاردة الفكر. 
    قد يكون السبب أنهما - أي الفنان وزوجته - لم يرزقا بأطفال أبدا. ويقال إن همرشوي تزوّج "آيدا" كي يستنقذها من معاملة والدتها التي كانت تعاني من اضطرابات سلوكية. 
    وهناك احتمال بأن تكون قد ورثت عن أمّها ذلك الجانب المظلم من شخصيّتها. 
    ومع ذلك كانت العلاقة بين الزوجين تتسم دائما بالمحبّة والدفء والألفة. 
    ويقال أنها وقفت إلى جانبه بتفان وإخلاص عندما أصيب بالسرطان، واستمرّت تلازمه وترعاه حتى وفاته في سنّ الحادية والخمسين. 
    وقد أنجز الفنان جميع لوحاته في نفس المنزل الذي عاشا فيه طوال حياتهما. 
    وما يزال البيت قائما إلى اليوم، لكنه أصبح في عهدة مالك آخر. 
    كان همرشوي مهتمّا في لوحاته، وبشكل خاص، بتمثيل الضوء الذي كان يرى انه يمنح الأشياء الجامدة حياة ويخلع عليها هويّة وكينونة خاصّة بها. 
    وافتتانه بالضوء ليس بالأمر الغريب أو المفاجئ. فمعظم رسّامي شمال أوربّا كانوا يرون في الضوء نوعا من الاحتفاء بالحياة وانبعاث الأمل. وكانوا مغرمين برسم تلك اللحظات العابرة التي تشرق فيها الشمس مشيعة بعض الحرارة والدفء قبل أن يخيّم الظلام والبرد مرّة أخرى ومعهما ذلك الإحساس الغامض الثقيل بالحزن والانقباض. 
    وفي العديد من لوحاته، نرى نفس المرأة إمّا واقفة أو جالسة بهدوء وهي تؤدّي بعض الأعمال المنزلية. وكثيرا ما تظهر صورة لآلة بيانو ولوحة معلقة بطريقة أنيقة على الجدار. في حين تأخذ الملابس والديكور والمعمار بعض سمات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. 
    وفي بعض أعماله الأخرى نلمس إحساسا عظيما بالفراغ، عندما يرسم مناظر لغرف خالية إلا من تأثير الضوء المتسرّب عبر النوافذ والمنعكس على ذرّات الغبار المتطايرة، وبعض الأثاث الذي يبدو بسيطا متقشفا. ولطالما اعتقد همرشوي أن الغرف تنطوي على جمال متأصّل وخاصّ حتى مع عدم وجود بشر فيها، وربّما بالتحديد عندما لا يكون فيها بشر. 
    ومن خصائص لوحاته أنها محدودة الأبعاد، أحادية اللون وكثيرا ما تستعصي على التفسير. لكنها مع ذلك مثيرة للاهتمام بطبيعتها الشاحبة وجمالها اللامع. 
    وهناك من النقاد من يصفون لوحاته بأنها قصائد صامتة. ويصحّ القول أنها نوع من الجمال الحزين أو الحزن الجميل.
    ومن الواضح أن مشاهده الساكنة والحزينة هي نتاج عفوي ومباشر لروحه ومشاعره الشفافة، أكثر من كونها مستندة إلى نظريات أو أطر فنية معدّة مسبقا. 
    وفي السنوات الأخيرة، ازداد الاهتمام بـ همرشوي ولوحاته، وتضاعف ذلك الاهتمام أكثر إثر قيام تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية بإنتاج برنامج وثائقي نادر عن الفنان وأعماله. 
    إن ثمّة شيئا ما غامضا يجذب الإنسان إلى لوحات همرشوي بتفاصيلها الغريبة وألوانها الهادئة والمحايدة. شيء ما أعمق بكثير من مسألة الشكل والتكنيك أو الأسلوب الفني الذي يوظفه في أعماله. 
    ومن المحزن أنه لم يترك وراءه أي مذكّرات أو كتابات يتحدّث فيها عن نفسه بعد أن أتلف مجموعة رسائله الخاصة قبيل وفاته عام 1916م. ولعله فعل هذا متعمدّا كي لا يتعرّف عليه الناس مباشرة، بل يكتفوا بالبحث في لوحاته عن مفاتيح وإشارات قد تدلّهم على طبيعة شخصيّته وأفكاره ونظرته للحياة. 
    إن من يتأمّل مناظر همرشوي ويتمعّن في ألوانها المرهفة وتفاصيلها البديعة، لا بدّ وأن يعجب به ويتعاطف معه ويقتنع أكثر فأكثر أنه كان إنسانا مختلفا وفنانا متميّزا جدّا.


    على شاطئ البحـر في ميتزوجـورنو 
    للفنان الايطالي فيتـوريو ماتيـو كوركـوس، 1884

    اتسمّ فنّ القرن التاسع عشر في ايطاليا باهتمامه بإبراز الجانب المتفائل من الحياة الذي كان يعكسه أسلوب حياة الطبقات الرفيعة من المجتمع والذي كان يتّسم بالإثارة والغرائبية. 
    في ذلك الوقت، اقتفى عدد كبير من الرسّامين الايطاليين خطى الفنّان الاسباني ماريانو خوسيه فورتوني الذي كان يغمر مناظره بالألوان الباذخة والتفاصيل الحسّية. وكان من بين هؤلاء كلّ من جيوفاني بولديني وجوسيبي دي نيتيس ودومينيكو موريللي وغيرهم. 
    كان فورتوني بمثابة الأب الروحيّ للعديد من الرسّامين الايطاليين. وقد وصل إلى ريف ايطاليا في سبعينات ذلك القرن حاملا معه من بلده الدفء واللون والنكهة الخاصّة وأجواء المرح والاستمتاع بالحياة التي تُصوّرها لوحاته. 
    النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان صارخا بصالوناته ورقصاته وكرنفالاته وحفلاته التنكّرية. وكانت السنوات الثلاثون من 1860 وحتي 1890 سنوات الأمل والإثارة والثقة، بحيث لم تتكرّر أبدا في التاريخ اللاحق للفنّ في ايطاليا. 
    ولوحات ذلك العصر كانت تمتلئ بالوجوه البورجوازية، وبعضها كان يتضمّن تعليقات اجتماعية أو يحتفي بمناسبات وطنية أو دينية. كانت هناك طبقات اجتماعية في طور التشكّل، وترافق ذلك مع توحيد ايطاليا في دولة واحدة على يد جيوسيبي غاريبالدي. 
    فيتوريو ماتيو كوركوس كان احد الرسّامين الذين عاصروا تلك الفترة التي أصبحت تُسمّى في الأدب والفنّ بـ الزمن الجميل . وقد بدأت تلك المرحلة في فرنسا ثم انتقلت إلى بقيّة أنحاء أوربّا وانتهت مع بداية الحرب العالمية الأولى. 
    كان كوركوس يختار للوحاته مواضيع حديثة مثل البورتريهات النسائية ومظاهر الحياة اليومية. وكانت نساء الطبقات الغنيّة احد مواضيعه المهمّة. كان يرسمهنّ في أوقات فراغهنّ وهنّ يتسلّين بقراءة رواية أو يمسكن بمراوح أو يستمعن إلى الموسيقى أو يركّزن أنظارهنّ على شيء ما. وكانت رسوماته تبالغ في تصوير أحذية الحرير والأيادي البيضاء والأذرع العارية والأقدام الصغيرة. 
    في هذه اللوحة، يرسم الفنّان ثلاث نساء يجلسن على الشاطئ، بينما يظهر خلفهنّ منظر لبحر وسفن. الملابس والهيئات المرفّهة للنساء تشي بمكانتهنّ الاجتماعية الرفيعة. والأسلوب الذي رُسمت به النساء والملابس قريب من أسلوب بولديني ودي نيتيس من حيث استخدام الألوان الحيّة وضربات الفرشاة السائلة. 
    أما المكان الذي تصوّره اللوحة فيُسمّى ميتزوجورنو، وهو مصطلح جغرافي يشير إلى المناطق الساحلية الجنوبية من ايطاليا التي اشتهرت بشواطئها الجميلة وغاباتها وجبالها وقصورها التاريخية ومواقعها الأثرية المهمّة، بما في ذلك أطلال بومبي الشهيرة. 
    ولد فيتوريو ماتيو كوركوس في ليفورنو بإيطاليا في أكتوبر 1859، ودرس الرسم على يد مواطنه دومينيكو موريللي الذي كان مشهورا بلوحاته ذات المواضيع الأدبية غالبا. وفي عام 1880 انتقل الرسّام إلى باريس حيث كان يتردّد على محترف الرسّام ليون بونا الذي كان متخصّصا في رسم بورتريهات لأفراد الطبقات الباريسية المتوسّطة. وبعد ذلك أصبح كوركوس جزءا من نخبة الفنّ في باريس. 
    في عام 1886 عاد الرسّام إلى ايطاليا واستقرّ في فلورنسا حيث كان يعرض لوحاته هناك باستمرار. وكانت أعماله النابضة بالحياة والمشيعة للبهجة تُستقبل استقبالا حسنا في أوساط فلورنسا الثقافية والفنّية. ومن بين أشهر أعماله التي أنجزها في تلك الفترة لوحة جميلة ومعبّرة بعنوان أحلام تظهر فيها ابنة صديقه الأديب والكاتب جاك لا بولينا وهي جالسة على مقعد خشبي وإلى جوارها مجموعة من الكتب. 
    في مطلع القرن العشرين أصبحت شهرة كوركوس كرسّام بورتريه تتجاوز حدود ايطاليا لتصل إلى جميع أنحاء أوربّا. وقد ذهب إلى ألمانيا حيث رسم بورتريها للإمبراطور وليام الثاني وزوجته وكذلك لشخصيات مهمّة أخرى هناك. 
    توفّي فيتوريو كوركوس في فلورنسا في نوفمبر من عام 1933م. ولوحاته تتوزّع اليوم على عدد من المتاحف في روما وفي غيرها من عواصم العالم.
     التوقيع 
    " إذا كنت ترغب في التحدث معي عرف ما تقول وحدد قولك " فولتير
  17. #47
    صورة عضوية ReX
    ReX 
    ReX غير متصل حالياًعضو مميز جداً
    تاريخ الانضمام
    06/12/2009
    الجنس
    ذكر
    المشاركات
    7,671

    افتراضي

    تشكيــل رقــم 8 
    للفنان الروسي فاسيلي كاندينسكي، 1923 


    لوحات كاندينسكي ليست من ذلك النوع الذي يروق للعين أو يريح الأعصاب. بل إن بعضها محيّر ومزعج ومشوّش للذهن. والمفارقة هي أن نسخا كثيرة من لوحات هذا الفنّان التي تستعصي على الفهم أو التفسير وجدت طريقها اليوم إلى كلّ مكان تقريبا؛ من ردهات المستشفيات إلى غرف الجلوس بالمنازل إلى المكاتب وحتى إلى جدران المقاهي والمطاعم الكبيرة. 
    ومن السهل التعرّف على لوحات كاندينسكي وتمييزها عن لوحات سواه بدوائرها الملوّنة وزواياها وخطوطها المتعرّجة والمنحنية والمتقاطعة والمتوازية وبأصواتها وغيومها الأثيرية وذبذباتها وهالاتها المضيئة والمتوهّجة. 
    وينظر بعض النقاد الى كاندينسكي باعتباره احد أكثر الفنانين أصالة ونفوذا في القرن العشرين. 
    وقد أدّت نظريته حول "الضرورة الداخلية لتفسير الأفكار الانفعالية" إلى ظهور أسلوب تجريدي جديد في الرسم يرتكز على الخصائص اللاتمثيلية للون والشكل. 
    وتشكيلات كاندينيسكي كانت ذروة جهوده لإبداع "لوحات فنية نقية" توفّر نفس القوّة الانفعالية التي توفّرها المؤلفات الموسيقية. 
    كان كاندينسكي ينظر إلى التشكيلات باعتبارها تلخيصا لأفكاره ومواقفه الفنية، فهي تشترك في العديد من السمات التي تجسّد الأشكال التعبيرية للوعي والسموّ التمثيلي من خلال التصوير المجرّد. 
    ومثلما تحدّد السيمفونيات الموسيقية معالم معيّنة من تطوّر مهنة المؤلف، فإن تشكيلات كاندينسكي كانت تمثل ذروة رؤيته الفنّية في مرحلة معيّنة من مراحل مسيرته الفنية. 
    في لوحته هنا، يركّز كاندينسكي على الإيقاع الهندسي للتشكيل. وقد أعاد رسم هذه اللوحة عشر مرّات في العام 1923 كي يعكس من خلالها تأثير البنائية التي استوعبها في روسيا فبل أن يعود إلى ألمانيا لمزاولة التدريس. 
    وفي التوليف انتقل الفنان من اللون إلى الشكل باعتباره العنصر التشكيلي المهيمن. فالأشكال المتباينة توفر التوازن الديناميكي للعمل، والدائرة الكبيرة في أعلى اللوحة إلى اليسار تقابلها شبكة من الخطوط المحدّدة والدقيقة في الجزء الأيمن. 
    والفنان يستخدم ألوانا مختلفة داخل الأشكال لتنشيط بنائها الهندسي: دائرة صفراء بهالة زرقاء مقابل دائرة زرقاء بهالة صفراء. 
    أما الخلفية فمهمّتها تعزيز ديناميكية وعمق التشكيل، فيما تتراجع الأشكال وتتقدّم ضمن هذا العمق منتجة تأثير دفع وجذب ديناميكيا. 
    وبرأي بعض النقاد، فإن الفضل يعود لـ كاندينسكي في رسم أوّل لوحات تجريدية في تاريخ الفنّ ليصبح بعد ذلك رائد التجريدية في العالم، بل ومنظّرها الأوّل بلا منازع . لكن طموحه الفنّي ذهب به إلى أبعد من ذلك، فقد أراد استدعاء الصوت من خلال حاسّة الإبصار ومن ثم إيجاد معادل فنّي لسيمفونية لا تثير فقط العين وإنما الأذن أيضا.
    كان كاندينسكي يؤمن بأن الكون واقع تحت تأثير ذبذبات صادرة عن قوى ما فوق الطبيعة وعن هالات الضوء والطاقة و"أشكال من الأفكار". وهي نفس آراء بعض الحركات الغامضة وشبه الدينية مثل الثيوصوفية التي تمارس طقوسا من التأمّل الروحي والفلسفي. 
    لقد أنجز كاندينسكي تجريدا صافيا عندما استبدل القلاع والأبراج العالية التي كانت تظهر في مناظره الطبيعية بكتل لونية أو بـ "أنغام وجمل موسيقية تؤلف معا أغنية "بصرية"، كما كان يراها. 
    وبهذه الطريقة نفسها رسم تكويناته الملتفّة مستخدما ضربات "متعدّدة الأصوات والنغمات" قوامها الأصفر الدافيء ذو التدرّجات الداكنة الذي تمّت موازنته برُقع من الأزرق "الرنّان" أو الأسود "الصامت".
    لوحات عالمية على الرابط التالي :
  18.  http://avb.s-oman.net/showthread.php?t=2090234&page=2