| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الصفحة الاساسية > التقرير الختامي > الكتب > الكتاب الأول : الحقيقة والإنصاف والمصالحة > الفصل الثالث : الحقيقة والإنصاف ومقومات المصالحة
الفصل الثالث : الحقيقة والإنصاف ومقومات المصالحةأولا: البحث والكشف عن حقيقة الانتهاكات
تنطلق الهيئة في مقاربتها للبحث والكشف عن حقيقة الانتهاكات، وخاصة منها الاختفاء القسري، من مبادئ وأسس القانون الدولي ذات الصلة بالحق في معرفة الحقيقة، والتي عرفت تطورا مطردا، خلال العقدين الأخيرين. كما أنها تراعي الترابط القائم بين الحق في معرفة الحقيقة والحق في الجبر والانتصاف.
1- الأسس المرجعية
يعتبر الاختفاء القسري من أفظع انتهاكات حقوق الإنسان. فهو انتهاك مركب يطال عددا كبيرا من الحقوق الأساسية المحمية دوليا. ويزيد من جسامته كون الأضرار المترتبة عنه تتعدى الأشخاص المنتهكة حقوقهم بشكل مباشر، لتطال عائلاتهم وأصدقاءهم، بل والمجتمع برمته.
ولما كانت ظاهرة "الاختفاء القسري" جديدة نسبياً، فإن المعاهدات العامة لحقوق الإنسان على الصعيدين الدولي والإقليمي، لا تتضمن مقتضيات صريحة حول الحق في عدم التعرض لهذا الانتهاك. إلا أنه مع انتشار واستفحال ظاهرة ممارسة الاختفاء القسري في العديد من الدول، أخذ المجتمع الدولي يهتم جديا بمعالجة الظاهرة، من خلال العمل على إنشاء آليات قانونية ملزمة لحماية وضمان الحق في عدم التعرض لهذا الانتهاك.
كما أن عددا من الدول، التي عرفت انتشار ظاهرة الاختفاء القسري بشكل ممنهج وعلى نطاق واسع، أصدرت تشريعات تستهدف تجريم الاختفاء القسري طبقا لمقتضيات الإعلان العالمي حول الحماية من الاختفاء القسري ومضامين توصيات فريق العمل الأممي المعني.
1- 1- الحماية ضد التعرض للاختفاء القسري في القانون الدولي
تتوزع مقتضيات القانون الدولي لحقوق الإنسان المتعلقة بالحماية ضد التعرض للاختفاء القسري وبضمان حقوق الأشخاص الذين يتعرضون لهذه الممارسة أو عائلاتهم بين مجموعة من الأدوات العالمية ذات الصلة بحقوق الإنسان. فالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يضمن مجموعة من الحقوق الأساسية والتي تتعرض للانتهاك عندما يتعرض الشخص للاختفاء القسري، ومن بينها أساسا، الحق في الحياة، الحق في عدم التعرض للتعذيب وسوء المعاملة، الحق في الاعتراف بالشخصية القانونية، حرية الرأي والتعبير والاعتقاد وغيرها من الحقوق الأخرى. كما أن اجتهادات اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، سارت في اتجاه منع الاختفاء القسري.
أما مقتضيات القانون الدولي الإنساني، فتنطبق على كافة أشكال الاختفاء في حالة نزاع مسلح مهما كانت الجهة المسؤولة. وهكذا، فإن مجال تطبيقه يشمل الأشخاص الذين انقطعت أخبارهم عن العائلات نتيجة نزاع مسلح.
وإذا كان النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ينص على منع الاختفاء القسري، فإنه لا يتطرق للاختفاءات في شموليتها. فالاختفاءات القسرية، بمقتضى المادة السابعة منه، تشكل جريمة ضد الإنسانية، عندما تكون مرتكبة في إطار هجوم واسع النطاق وممنهج ضد ساكنة مدنية.
وأخيرا، فإن الاجتهادات الفقهية للجنة المعنية بحقوق الإنسان ذات الصلة بالموضوع، وكذا المجهودات السياسية المتواصلة المبذولة من قبل لجنة حقوق الإنسان، أفضت إلى وضع واعتماد اتفاقية دولية خاصة تعنى بالحماية ضد الاختفاء القسري.
وتجدر الإشارة إلى أن القانون الدولي لحقوق الإنسان قد تعزز بجملة من النصوص غير الملزمة قانونا والتي تشكل بداية لضمان حماية جملة من الحقوق الناشئة في شكل مبادئ عامة أو توجيهية، بما فيها الحق في المعرفة. وقد ساهمت هذه النصوص في تعزيز مسلسل البحث عن الحقيقة ومعرفتها فيما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة المرتكبة خلال فترة سابقة. وتكرست هذه التوجهات في سياق تجارب لجان الحقيقة والمصالحة، في إطار ما أصبح متعارفا عليه بالعدالة الانتقالية.
1- 2- في التشريع الوطني
لا يوفر التشريع المغربي الضمانات القانونية التي من شأنها الحماية ضد ممارسة الاختفاء القسري. وهذا بالرغم من كون بعض المقتضيات الدستورية ما فتئت تقضي، ولو بشكل ضمني ومنذ سنة 1962، بمنع مثل هذه الممارسات. ويتعلق الأمر، على وجه الخصوص، بمبدأ عدم إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو معاقبته إلا في الأحوال وحسب الإجراءات المنصوص عليها في القانون. ويجد هذا المبدأ ترجمته التشريعية في مقتضيات القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية.
2- اختصاص هيئة الإنصاف والمصالحة
يحدد النظام الأساسي لهيئة الإنصاف والمصالحة مجال عملها في موضوع الكشف عن حقيقة الانتهاكات الجسيمة المرتكبة في الماضي، فيما يتعلق بوقائعها وسياقاتها ومسؤولية الفاعلين فيها، فيكلفها بـ:
وقد تم الاسترشاد في تفسير اختصاص الهيئة وتحديد مهامها في هذا المجال بالتطورات الحاصلة على المستوى الدولي المشار إليها أعلاه من الناحية المعيارية وكذا الدروس المستفادة من تجارب لجان الحقيقة والمصالحة أثناء تسوية وتدبير نزاعات الماضي بشكل سلمي يتلائم وطبيعة الانتقال الديمقراطي.
3ـ منهجية العمل وطرق البحث والتحري
اعتمدت الهيئة، في تحرياتها بشأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان مقاربة مبنية على إشراك كل المعنيين بهذا الملف، وخاصة الضحايا السابقين أو عائلاتهم. واستندت منهجية العمل في هذا الصدد على العناصر الأساسية التالية:
وقد قامت الهيئة بتحديد إجرائي لمجالات تحرياتها بخصوص حالات الأشخاص مجهولي المصير المعروضة عليها، على الطريقة التالية:
3- 1- التحري في ملف الأشخاص مجهولي المصير
3-1-1- مرحلة تجميع المعطيات
قبل الشروع في أعمال التحريات في ملف الأشخاص مجهولي المصير، قامت الهيئة بحصر كل مصادر المعلومات المتعلقة بالموضوع، مما مكنها من إعداد لوائح مرجعية بالاستناد إلى:
3-1-2- مرحلة التحليل الأولي للمعطيات
قامت الهيئة بتحليل المعطيات الواردة في المصادر المذكورة، ومكنت نتائج هذا التحليل الأولي من الوقوف على حقيقة مفادها أن الأمر لا يتعلق فقط بحالات مفترضة لأشخاص ضحايا الاختفاء القسري طبقا لمقتضيات النظام الأساسي للهيئة، وإنما أيضا، وبصفة عامة، بحالات أشخاص يجهل مصيرهم لأسباب متعددة ومختلفة. وقد مكن ذلك من تصنيف جميع الحالات موضوع التحليل كما يلي:
ولاعتبارات إجرائية، قامت الهيئة بتصنيف الملفات المعتمدة بخصوص هذه الحالات، كما يلي:
• حالات الأشخاص مجهولي المصير خلال السنوات الأولى للاستقلال؛
• حالات الأشخاص مجهولي المصير خلال الستينات؛
• حالات الأشخاص مجهولي المصير خلال السبعينات؛
• حالات الأشخاص مجهولي المصير خلال الثمانينات؛
• حالات الأشخاص مجهولي المصير خلال التسعينات؛
• حالات تفيد المعلومات المتوفرة لدى الهيئة أنهم توفوا بأماكن مختلفة.
3-1-3- تلقي إفادات العائلات وضحايا سابقين
حرصت الهيئة على القيام بزيارات لأفراد عائلات الأشخاص مجهولي المصير أو استقبالهم بمقرها، قصد الاستماع إليهم وتحديد مطالبهم وشرح مقاربة الهيئة والمنهجية المتبعة لتسوية هذا الملف. كما باشرت، في إطار جلسات مغلقة، الاستماع إلى شهود قضوا فترات إلى جانب ضحايا لم يحدد مصيرهم.
3-1-4- تجميع معطيات من مصادر أخرى
اعتمدت الهيئة في هذا الإطار على الاطلاع على سجلات المستشفيات المتوفرة وسجلات مستودعات الأموات التابعة لمكاتب حفظ الصحة وتلك الممسوكة من قبل محافظي المقابر، كما استعانت بالمعطيات المتوفرة بصدد مجموعة من الحالات لدى فاعلين جمعويين، وقامت، بالإضافة إلى ذلك بتحريات ميدانية.
3-1-5- وضع ملف وبطاقة مرجعية لكل حالة من حالات مجهولي المصير
بعد ذلك، عمدت الهيئة إلى وضع ملف متابعة وبطاقة ملخصة لكل حالة من الحالات، وذلك بهدف المزيد من الضبط، وتمهيدا لعرضها على السلطات (وزارة الداخلية، الدرك، الجيش، مديرية مراقبة التراب الوطني...)
3-1-6- تسليم لوائح مجهولي المصير إلى السلطات العمومية بناء على القرائن المتوفرة، قامت الهيئة بعرض لائحة مجهولي المصير على الأجهزة المعنية مجتمعة، ثم على كل واحد على حدة، بناء على ما تجمع من قرائن عن مسؤولية هذه الأجهزة في كل حالة. وقد تلا ذلك مرحلة تلقي الأجوبة والقيام بالتقاطعات وتحديد التباينات بين معطيات السلطات ومعطيات الهيئة وصولا إلى تشكيل القناعة وتكييف الحالات وبلورة التوصيات.
3-2- التحري في الاختفاءات والوفيات التي حدثت في أوائل الاستقلال
اعتمدت الهيئة في هذا الإطار على:
3-3- التحري في حالات الضحايا المتوفين في مراكز الاحتجاز والاعتقال التعسفي غير النظامية
منذ انطلاق أعمالها، انشغلت الهيئة بملف المحتجزين الذين لقوا حتفهم خلال مدة احتجازهم بمراكز الاحتجاز غير النظامية منذ بداية الستينات. وحددت الهيئة لنفسها بهذا الصدد مهاما تتعلق باستجلاء الحقيقة عن سياقات وظروف احتجاز ومعاملة ضحايا الاختفاء القسري بهذه المراكز والكشف عن أماكن دفن المتوفين منهم، ثم تحديد هوية صاحب كل قبر على حدة.
انطلقت الهيئة في معالجة الموضوع من افتراض مسؤولية الدولة والموظفين المكلفين بتنفيذ القوانين أو الأشخاص الذين يعملون بصفة رسمية في مجال حماية حريات الأشخاص والجماعات وضمان عدم انتهاك حقوقهم الأساسية التي على رأسها الحق في الحياة، مع تمييزها عن تلك الواقعة خلال أحداث اجتماعية.
وبصفة مجملة، يمكن القول أن الهيئة قد اعتمدت في مسعاها للكشف عن ظروف احتجاز ووفاة ودفن الضحايا، منهجية تزاوج بين تلقي الإفادات الشفوية من مصادر متعددة، والإطلاع على الوثائق والبيانات المكتوبة المتعلقة بالموضوع، وإجراء عمليات تقاطع بين المصادر المختلفة لكل المعلومات والإفادات المتوفرة، إضافة إلى المعاينة الميدانية.
فبعد القيام بتحديد أولي للسياقات التي احتجز فيها هؤلاء الضحايا، عكفت الهيئة على تجميع المعطيات الواردة في اللوائح المعدة من طرف الضحايا الناجين أو الجمعيات الحقوقية، ثم عمدت إلى الاستماع المباشر لشهادات الناجين من المعتقلات، كما تم الاستماع إلى شهادات موظفين سابقين أو حاليين لهم علاقة بالموضوع. واطلعت الهيئة على وثائق وسجلات ممسوكة من طرف سلطات محلية، كما قامت بتحريات ميدانية للمعاينة المباشرة.
لتسهيل دراسة حالات الأشخاص الذين تفيد الوقائع المستند إليها أنهم توفوا في مراكز احتجاز، تم اعتماد تصنيف ينطلق من الظروف والعناصر المشتركة بين كل مجموعة لضرورات إجرائية وعملية. وفيما يلي المراحل المتتالية للتحريات المجراة:
3-3-1- الخطوات التمهيدية
تجميع العناصر الموجودة في الأدبيات المتداولة، واستخراج المعطيات المتضمنة في الطلبات المقدمة للهيئة.
3-3-2- تلقي إفادات العائلات والضحايا السابقين وبعض السكان عمدت الهيئة، في إطار جلسات مغلقة، إلى الاستماع لعائلات الضحايا والشهود الذين قضوا فترات إلى جانب ضحايا تم التصريح بوفاتهم في مراكز الاحتجاز غير النظامية أو قبل ذلك في مراكز أخرى. كما اعتمدت على تصريحات السكان.
3-3-3- تلقي إفادات موظفين عموميين سابقين أو حاليين
تم التعاون مع السلطات المركزية والإقليمية التابعة لوزارة الداخلية، من أجل تحديد لوائح موظفين عموميين سبق لهم أن عملوا أو ما زالوا يعملون في صفوف الأجهزة الأمنية التي أشرفت على مراكز سابقة اشتهرت بحدوث انتهاكات جسيمة، أو سبق لهم أن عملوا تحت إشرافها. وتم الاستماع إلى هؤلاء في إطار جلسات مغلقة لتلقي إفاداتهم حول الأحداث التي عايشوها.
3-3-4- الإطلاع على سجلات ووثائق ممسوكة من طرف السلطات
تم الإطلاع على سجلات ووثائق ممسوكة من طرف السلطات العمومية الإقليمية، حيث قدمت هذه الأخيرة توضيحات حول أماكن الدفن موضوع التحريات، وخاصة حول تواريخ الوفاة.
3-3-5- الانتقال إلى عين المكان والوقوف على أماكن الدفن
تم الوقوف على أمكان دفن الأشخاص المتوفين بتلك المراكز من أجل المعاينة والتثبت من القبور وهويات أصحابها، وذلك إما بشكل منفرد من طرف الهيئة أو بحضور السلطات الإقليمية والمصالح التابعة لها، وشهود عيان ساهموا في عمليات الدفن. كما اعتمدت الهيئة تحريات ميدانية، بحضور السلطات والشهود، من أجل التثبت من وجود قبر أو عدمه، خاصة في الأماكن التي لا وجود بها لأية معالم واضحة.
3-3-6- التداول وتشكيل القناعة
يتم التداول في الحالات المعروضة على الهيئة من خلال اجتماعات فريق التحريات أو لجنة التنسيق بين الفرق، ثم يتم عرضها بعد ذلك على الهيئة في اجتماعاتها مع اتخاذ القرار في إعلان النتائج بصددها، بعد إخبار العائلات.
3-4- التحري في موضوع الوفيات خلال أحداث اجتماعية نتيجة استعمال غير متناسب للقوة العمومية.
خلافا لمنهجية البحث والتحري بخصوص الأشخاص المتوفين في مراكز الاحتجاز، وبالنظر لتعدد الأماكن المفترضة بالنسبة للوفيات بسبب الاستعمال المفرط وغير المتناسب للقوة العمومية أثناء مواجهة بعض الأحداث الاجتماعية، باشرت الهيئة مهمتها بخصوص هذا الموضوع من خلال العمل على تجميع أكبر قدر ممكن من المعلومات حول الأحداث التي شهدتها بلادنا والواقعة سنوات 1965 و 1981 بالدار البيضاء، 1984 ببعض مدن الشمال و1990 بمدينة فاس.
واجهت الهيئة، في مستهل معالجتها للموضوع، قلة المعلومات، مما دفعها إلى القيام بدراسات وأبحاث بالاستناد إلى كل مصادر المعلومات المتوفرة. وباشرت بعد ذلك، تلقي إفادات بعض الشهود الذين عاصروا تلك الأحداث وذوي حقوق بعض الضحايا.
34-1- أحداث مدينة الدار البيضاء سنة 1965
استندت منهجية التحري حول الموضوع على العناصر الأساسية التالية:
o بالسجل الخاص بمصلحة حفظ الأموات؛
o بسجلات المستعجلات والاستقبال بمستشفى ابن رشد؛
o بالسجل الخاص بمصلحة الطب الشرعي التابعة لمستشفى ابن رشد؛
o بسجلات المستعجلات والاستقبال بمستشفي الصوفي (مولاي يوسف حاليا)؛
o بسجل الدفن بمقبرة الشهداء.
3-4-2- أحداث مدينة الدار البيضاء سنة 1981
استندت منهجية التحري حول الموضوع على العناصر الأساسية التالية:
3-4-3- أحداث بعض مدن الشمال سنة 1984
استندت منهجية التحري حول الموضوع على:
3-4-5- أحداث مدينة فاس 1990
استندت منهجية التحري حول الموضوع على:
3-5- التحري في حالات وقضايا خاصة
استندت التحريات المجراة في الموضوع على منهجية تزاوج بين تلقي الإفادات من مختلف المصادر ذات الصلة بالقضايا المعروضة من جهة، ودراسة المذكرات التي توصلت بها من جهة أخرى، فضلا عن الاستماع لمسؤولين أو أعوان سابقين في الأجهزة المعنية بهذه الحالات بالإضافة إلى تحليل المعلومات والمعطيات المتداولة بشان كل حالة على حدة.
4- خلاصات واستنتاجات
أولا- ملف مجهولي المصير
أدى انعدام تعريف دقيق للاختفاء القسري في القانون المغربي، وكذا كونه انتهاكا مركبا يترتب عنه المس بكل حقوق الإنسان المحمية دوليا وعلى رأسها الحق في الحياة، إلى نعته بأوصاف متعددة من بينها " مجهولو المصير" و"المختطفون مجهولو المصير" و"المختطفون". غير أن هذه الأوصاف لا تشمل فقط الاختفاء القسري حسب التعريف المتعارف عليه دوليا بقدر ما تحيل على أشكال أخرى من الحرمان التعسفي من الحرية والذي يكون متبوعا في العديد من الحالات بالحرمان من الحق في الحياة، وذلك إما بسبب تجاوز استعمال السلطة أو الاستعمال غير المتناسب أو المفرط للقوة من قبل السلطات العمومية بمناسبة مواجهة أحداث اجتماعية، أو نتيجة التعرض للتعذيب وسوء المعاملة أو خلال مواجهات مسلحة.
ومما يزيد في هذا اللبس توافر بعض العناصر المكونة للاختفاء القسري في بعض حالات الاعتقال التعسفي، ومنها على الخصوص طول مدته والتستر على مكان الاعتقال ورفض الكشف عن مصير الشخص المحروم من حريته.
فبقدر ما واجهت الهيئة أثناء معالجتها لحقيقة الاختفاء القسري وتحديد المسؤولية عنه، انتظارات كبيرة من جهة المجتمع وعائلات الأشخاص المعنيين، بقدر ما وجدت نفسها أمام حالات متنوعة وبالغة التعقيد وتنعدم المعلومات التي من شأنها تكييف الوقائع المستند إليها كعناصر مكونة لجريمة الاختفاء.
ومن خلال تحليل الأحداث والوقائع المرتبطة بحالات الاختفاء القسري الثابتة لدى الهيئة، يمكن القول أن هذا الانتهاك تم اللجوء إليه كنمط من أنماط القمع، قصد تخويف وبث الرعب لدى المعارضين السياسيين والمجتمع.
وهكذا خلصت الهيئة بفضل تحليل الملفات المعروضة عليها ونتائج التحريات التي قامت بها حول حالات الاختفاء، إلى أن هذا الأخير تمت ممارسته في حق أشخاص فرادى أو جماعات، بارتباط مع أحداث سياسية طرأت خلال الفترة الزمنية موضوع اختصاص الهيئة في كثير من الأحيان، مما سمح لها من أن تخلص إلى اعتبار الحالات ذات الصلة حالات اختفاء قسري طبقا للتعريف الوارد في نظامها الأساسي. غير أنه تم تسجيل حالات اختفاء أخرى لم يكن للضحايا المعنيين بها أية علاقة مباشرة بنشاط سياسي أو جمعوي أو نقابي، وغالبا ما تمت هذه الحالات في ظروف خاصة.
كما وقفت الهيئة من خلال تحليل حالات الاختفاء القسري موضوع اختصاصها على أن هذا الفعل تم ارتكابه في حق أشخاص معزولين، بصفة عامة، بعد اختطافهم من محلات سكناهم أو في ظروف غير محددة، وتم احتجازهم في أماكن غير نظامية.
تصنيفات وخلاصات حول حالات الأشخاص مجهولي المصير
توصلت الهيئة بطلبات يعرض فيها أصحابها اختفاء أو فقدان أقارب لهم. وقامت تبعا لذلك بتجميع كل الحالات المشابهة التي اعتبرت خلال سنوات بمثابة حالات أشخاص مجهولي المصير أو مفقودين. وعملت على تجهيز هذه الحالات ودراستها، كما سعت إلى الحصول على معلومات من الأجهزة المعنية المنسوبة إليها المسؤولية عن الوقائع المستند إليها في تلك الطلبات، وحرصت على استكمال المعلومات ذات الصلة بتلقي إفادات ذويهم ومعارفهم.
وتوصلت الهيئة بوثائق رسمية من القوات المسلحة الملكية والدرك الملكي والمديرية العامة للأمن الوطني، والمديرية العامة للدراسات والمستندات كما راجعت جزءا من أرشيف وزارة حقوق الإنسان ذي الصلة بموضوع الاختفاء القسري.
يتعلق الأمر بـ 4 حالات لأشخاص اعتقلوا إثر اشتباكات مسلحة بعد تعرضهم لإصابات خطيرة، توفوا بالمستشفيات وتم دفنهم بمدن مراكش وأكادير والعيون وسلا.
يتعلق الأمر بـ 67 شخصا تم أسرهم على إثر اشتباكات مسلحة وتم تسليمهم إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي تولت نقلهم إلى تندوف جنوب الجزائر بتاريخ 31 أكتوبر 1996.
خلصت الهيئة إلى تصنيف الطلبات الواردة عليها ومختلف الحالات المتداولة وطنيا ودوليا وفق النتائج المتوصل إليها بخصوص الوفيات رهن الاحتجاز أو الاعتقال التعسفي بمراكز غير نظامية أو نتيجة استعمال مفرط وغير متناسب للقوة العمومية أو على إثر اشتباكات مسلحة أو بسبب ظروف الاعتقال أو على إثر أحداث مختلفة.
أفضى عمل الهيئة المتعلق بالاستماع وإجراء التقاطعات ودراسة الأجوبة التي تلقتها من السلطات العمومية إلى النتائج التالية:
وفاة 144 شخصا خلال الاشتباكات المسلحة، تم تحديد هوية وأماكن وفاة ودفن 40 منهم، بينما تم تحديد هوية ومكان الرفات دون التمكن من التعرف على القبور بالنسبة لـ 88 حالة. كما لم تتمكن الهيئة من تحديد هوية 12 شخصا من بين المتوفين، في حين تأكدت الهيئة من أن 4 أشخاص اعتقلوا ونقلوا إلى مستشفيات على إثر إصابتهم بجروح خلال الاشتباكات، وتوفوا بها ودفنوا بمقابر عادية. 67 شخصا كانوا محسوبين في عداد المختفين تبث للهيئة أنهم سلموا للجنة الدولية للصليب الأحمر بتاريخ 31 أكتوبر 1996. خلاصة:
واجهت الهيئة أثناء الكشف عن الحقيقة معيقات من بينها محدودية بعض الشهادات الشفوية وهشاشتها، وتم التغلب على ذلك باللجوء إلى مصادر مكتوبة، وكذا الحالة المزرية التي يوجد عليها الأرشيف الوطني والتعاون غير المتكافئ لبعض الأجهزة، حيث قدم البعض منها أجوبة ناقصة عن ملفات عرضت عليها، كما رفض بعض المسؤولين السابقين المحالين على التقاعد المساهمة في مجهود البحث عن الحقيقة.
ترى الهيئة في نهاية ولايتها أن المهام التي قامت بها تفعيلا لكل اختصاصاتها، شكلت خطوة مهمة في النهوض بالحق في معرفة الحقيقة، من خلال ما ابتدعته من طرق وأشكال لم تكن معهودة، ساهمت في الرفع من مستوى الكشف عن الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي شهدتها بلادنا خلال الفترة السابقة.
ثانيا: الاعتقال التعسفي
على عكس الاختفاء القسري الذي يكون الهدف من ممارسته حرمان ضحيته من أية حماية قانونية، حيث يتم ارتكاب كافة الأفعال المكونة له خارج نطاق القانون مع عدم الاكتراث المطلق بمقتضياته، فإن الاعتقال التعسفي غالبا ما تتم ممارسته في إطار القانون مع خرق بعض أو كل مقتضياته. وغالبا ما كان يتم ذلك في بلادنا من خلال خرق المقتضيات القانونية المنظمة للوضع تحت الحراسة النظرية. وعليه يكون الاعتقال التعسفي بوصفه كذلك قد مورس في بلادنا بكيفية ممنهجة منذ بداية الستينات، خاصة في قضايا ذات صبغة سياسية تدخل في نطاق اختصاص المحاكم العادية. ويمكن القول أن ممارسة الاعتقال التعسفي قد تمت، واقعيا، من خلال منح النيابة العامة والشرطة القضائية سلطة واسعة تتجاوز السلطة المعترف بها لمحاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية، الملزمة بالنطق بعقوبات سالبة للحرية ضمن الحدود المقررة في القانون الجنائي.
أما عن ظروف الاعتقال في الفترة السابقة للمحاكمة في الوضع المفترض فيه أنه حراسة نظرية، فبصفة عامة يمكن القول أنها كانت تتميز بما يلي:
ومن خلال التحريات التي قامت بها الهيئة تم الوقوف، بالإضافة إلى المراكز التي استعملت لأغراض الاحتجاز في حالات الاختفاء القسري، على مراكز غير نظامية أو نظامية استعملت لأغراض الاعتقال التعسفي.
مكنت المعلومات المحصل عليها من الضحايا ومن الشهود المستمع إليهم والمعاينات الميدانية التي قامت بها الهيئة بتحديد مجموعة من الأماكن والمراكز التي استعملت لأغراض الاعتقال التعسفي. وتبين للهيئة أن بعض الأجهزة الأمنية عملت، خلال الفترات التي عرفت حدوث انتهاكات جسيمة، على إحكام السيطرة عليها لضمان التستر على الانتهاكات المرتكبة بها. كما شمل هذا التستر أيضا الأجنحة الخاصة باستقبال ضحايا التعذيب بالمستشفيات وأماكن دفن الضحايا المتوفين
ثالثا: التعذيب وسوء المعاملة
مكن تحليل المعطيات التي تتضمنها الملفات المعروضة على الهيئة، وكذا الشهادات الشفوية المقدمة خلال جلسات الاستماع العمومية والمغلقة المنظمة بمقر الهيئة، من الوقوف على طرق مختلفة مورست بشكل منهجي لتعذيب المعتقلين قصد انتزاع اعترافات منهم أو معاقبتهم في الفترة الزمنية موضوع اختصاص الهيئة. كما مكنت المقارنات المجراة بين الأوصاف المقدمة من قبل الضحايا من التوصل إلى الخلاصات التالية:
o " التعلاق" بشتى أشكاله والمصحوب بالضرب على الأرجل وأجزاء أخرى من البدن؛
o الكي بواسطة السجائر؛
o اقتلاع الأظافر؛
o الإرغام على شرب مواد ملوثة؛
o الإرغام على الجلوس على قنينة؛
وبالإضافة إلى الضرر النفسي والألم الجسدي المترتب عن ذلك، فقد تسببت هذه الأساليب في بعض الحالات في إصابات خطيرة نتجت عنها مخلفات نفسية وعاهات مستديمة. بل أدت خطورة التعذيب الممارس إلى الوفاة في حالات معينة.
o التهديد بالقتل؛
o التهديد بالاغتصاب؛
o السب والقذف واستعمال كافة الوسائل الأخرى التي من شأنها الحط من الكرامة؛
o وضع أصفاد باليدين وعصابة على العينين قصد حجب الرؤيا والمنع من الحركة؛
o العزل عن العالم الخارجي وما ينتج عنه من إحساس بانعدام الأمان؛
o الحرمان من النوم؛
o المنع المطلق من الحديث مع باقي المعتقلين؛
o تعذيب أحد أفراد العائلة أو الأقارب أو التهديد بذلك؛
يمكن القول أن ممارسة التعذيب كانت الوسيلة المفضلة المعتمدة في الاستنطاق والتحقيق مع المعتقلين في القضايا ذات الصبغة السياسية. حيث أنه لم يعد الهدف من وراء اللجوء إليه نزع الاعترافات فحسب، بل أيضا المعاقبة والانتقام والإذلال الجسدي والمعنوي للمتهمين. والجدير بالإشارة أن الرغبة في الحصول على الاعتراف بأية وسيلة والمزاجية وانعدام المهنية، تعتبر كلها عوامل ساعدت على توسيع نطاق ممارسة التعذيب ليشمل حتى الأشخاص المتابعين في جرائم الحق العام.
علاوة على مختلف أشكال التعذيب المذكورة، فإن معاناة النساء تكون أكثر حدة، حيث تتعرض خلال المرحلة السابقة للمتابعة القضائية، لأشكال خاصة من التعذيب. ويرجع ذلك إلى كون التعذيب الممارس على المرأة يتولى القيام به رجال دونما اعتبار لكرامة الضحية، حيث يفرض عليها أحيانا أن تبقى عارية أمام جلاديها وما يرافقه من خطر الاغتصاب والتهديد به كهاجس وكفعل في بعض الأحيان.
وتتضاعف معاناة النساء عندما يستعمل الحرمان من وسائل النظافة أثناء فترات الحيض كوسيلة للإمعان في تعذيبهن.
رابعا: الاستعمال المفرط وغير المتناسب للقوة العمومية
مكن تحليل المعطيات والمعلومات المستقاة من مختلف المصادر، ذات الصلة بالانتهاكات الجسيمة موضوع اختصاص الهيئة، وكذا التحريات المجراة، من الوقوف على مسؤولية أجهزة أمنية مختلفة عن تلك الانتهاكات، في معظم الحالات المعروضة على الهيئة. بل ثبت للهيئة في العديد من الحالات وجود مسؤولية مشتركة، وفي بعض الحالات تضامنية، بين أجهزة متعددة. ولتيسير تحليل المسؤولية السياسية والقانونية الناتجة عن أعمال وتدخلات تلك الأجهزة، يجدر التذكير بالأنظمة القانونية المنظمة لها.
مكن تحليل الملفات المعروضة على الهيئة ذات الصلة بالأحداث الواقعة خلال سنوات 1965 و1981 و1984 و1990، والتحريات والدراسات التي أجرتها حول الموضوع من التوصل إلى الخلاصات التالية:
خامسا: خلاصات واستنتاجات عامة
شكلت المهام التي قامت بها الهيئة تفعيلا لكل اختصاصاتها خطوة مهمة في النهوض بالحق في معرفة الحقيقة، من خلال ما ابتدعته من طرق وأشكال لم تكن معهودة، ساهمت في الرفع من مستوى الكشف عن الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي شهدتها بلادنا خلال الفترة السابقة.
ساهمت الشهادات الشفوية، كواحدة من بين المصادر المعتمدة من قبل الهيئة، في توضيح ملابسات الوقائع المرتبطة بالأحداث موضوع التحريات. غير أنه تم تسجيل محدوديتها وهشاشتها في بعض الحالات، حيث تم الحديث عن نفس الوقائع بطرق مغايرة، بل ومتعارضة أحيانا، من قبل فاعلين عايشوها مما جعلها لا تفيد إلا جزئيا في الكشف عن الحقيقة في حالات معينة. وقد تم التغلب على هذا العائق من خلال اللجوء إلى تقاطع المعطيات الواردة بتلك الشهادات، مع معلومات مستقاة من مصادر أخرى، وخصوصا الوثائق والسجلات الرسمية.
أفادت السجلات والوثائق الرسمية في استجلاء الحقيقة حول العديد من الوقائع ذات الصلة بملفات وقضايا لم يكن من اليسير التوصل بشأنها إلى قناعة ثابتة دون مقارنة ما توفر بصددها من معلومات متنوعة ومتعددة بما هو مدون رسميا في سجلات ممسوكة من قبل إدارات عمومية مختلفة. إلا أن الهيئة وقفت في مناسبات عديدة على الحالة المزرية للأرشيف فضلا عن غياب إطار قانوني موحد لضبطه وتنظيمه وتدبير الولوج إليه وترتيب الجزاءات عن إتلافه أو تدميره. كما أنها لم تتمكن من الاطلاع على جزء من السجلات الرسمية تفترض أنها موجودة إما بسبب التردد أو التأخر في تسليمها لها أو لم تتمكن، بحكم أجل عملها المحدود من الاستغلال الكامل لوثائق وسجلات من الأرشيف قبلت بعض المؤسسات وضعه رهن إشارة الهيئة. [الأرشيف العسكري المتعلق بتاريخ النزاع المسلح بالأقاليم الجنوبية للمملكة].
مكّن التعاون الفعال للمصالح المركزية والإقليمية التابعة لوزارة الداخلية، من الاستفادة بشكل كبير من التسهيلات المقدمة من طرفها في إنجاز مهام الهيئة الميدانية. وأفضى هذا التعاون أيضا إلى تسهيل وصول الهيئة إلى العديد من الشهود من مختلف الرتب والدرجات الإدارية، الذين ساهمت شهاداتهم في استجلاء العديد من الوقائع.
وبالإضافة إلى ذلك، تم عقد جلسات عمل منتظمة مع المديرية العامة للدراسات والمستندات والمديرية العامة للأمن الوطني، ساهمت في فتح سبل جديدة للتحري بخصوص عدد من الحالات من خلال تسهيلها لعملية الاستماع لبعض المسؤولين السابقين، ولزيارة بعض المراكز و"النقط الثابتة" التي استعملت في الستينات والسبعينات لأغراض الاحتجاز. غير أن هذا المستوى من التعاون لم يشمل كافة الأجهزة، حيث قدم البعض منها أجوبة ناقصة عن ملفات عرضت عليها.
ساهمت جلسات العمل التي عقدت على مستوى عال مع القوات المسلحة الملكية، في وقت مبكر من انطلاق أشغال الهيئة، في التقدم الذي أحرزته في مهامها سواء فيما يتعلق بحالات مجهولي المصير أو بتحليل سياقات الانتهاكات في الأقاليم الجنوبية.
كما ساهمت جلسات الاستماع المغلقة لبعض المسؤولين السابقين، في إحراز تقدم في بعض الحالات، غير أن الهيئة سجلت في حالات أخرى، نقصا في الشهادات المقدمة.
كما رفض بعض المسؤولين السابقين، تقديم شهاداتهم أمام الهيئة، مما حرمها من مصادر معلومات قد يكون من شأنها المساهمة في استجلاء حقيقة الوقائع المتحرى بشأنها.
ترتب عن تعدد الأجهزة الأمنية المتدخلة قصد حفظ النظام العام أثناء الأحداث الاجتماعية، بشكل متعاقب، أو متواز، أو متداخل تحديد درجة مسؤولية كل جهاز من تلك الأجهزة في الانتهاكات الجسيمة المرتكبة في تلك الأحداث.
ثانيا: مستخلصات حول النوع والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان
1-المنطلقات والمنهجية
اعتمد بعد النوع في مقاربة هيئة الإنصاف والمصالحة كاختيار منهجي أفقي، انسحب على مختلف مجالات عملها. وطرح عليها بالنتيجة، ضرورة التمحيص في مدى خصوصية الانتهاكات التي تعرضت لها النساء، والأضرار الناجمة عنها، وتجاربهن وأدوارهن في التصدي لها، واستخلاص ما يترتب عن ذلك من استنتاجات، من حيث تكييف الانتهاكات واستجلاء مختلف أوجه وقعها، ومن حيث متطلبات ضمان عدم التكرار.
وقفت الهيئة، في بداية عملها، على واقع يتميز بندرة المعطيات والكتابات والشهادات، وغياب الدراسات، بخصوص النوع وماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. مما جعل معاناة وخبرات النساء وأدوارهن غير معروفة بما يكفي، أو بالأحرى غير مرئية، وكرس بالتالي التمثلات السائدة لضحايا العنف السياسي وللفاعلين في الحياة العامة، التي تضع النساء خارج تاريخنا القريب، والتي تستند بدورها على ثقافة أبوية من مقوماتها الأساس، التقسيم الجنسي النمطي للأدوار بين الفضاء العام والفضاء الخاص.
واعتبارا لكون الحقيقة لا يمكنها أن تكون مكتملة إلا إذا أخذت بعين الاعتبار تجارب وآلام المرأة والرجل بالنظر لما هو مشترك بينهما ولما يميزهما عن بعضهما البعض، ولكون إعادة تشكيل الذاكرة الجماعية يقتضي تحرير صوت النساء أيضا وإسماعه وحفظه، كما أن المصالحة وضمان عدم تكرار ما جرى، يتطلب إنصاف النساء الضحايا وإعادة الاعتبار لهن والاعتراف بما قدمنه من تضحيات وما اضطلعن به من أدوار، وتعزيز مكانتهن في المجتمع بوجه عام، لكل ذلك اعتمدت الهيئة منهجية عمل غايتها إبراز بعد النوع في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وذلك عبر:
2- خصوصية الانتهاكات التي تعرضت لها النساء
مكنت مختلف المصادر والأدوات المعتمدة من طرف الهيئة، من الوقوف على الخلاصات العامة التالية:
2-1-تمايزات على أساس النوع
تعرضت النساء لمختلف أصناف الانتهاكات كنظائرهن الذكور، من اعتقال تعسفي واختفاء قسري واغتراب اضطراري ووفاة أثناء الاحتجاز أو أثناء الأحداث الاجتماعية وما تخللها من استعمال مفرط للقوة العمومية. غير أن معاناتهن من تلك الانتهاكات وشروطها، وتمثلهن لها، وما كان لها من أثر نفسي عليهن، تتميز عن تجارب الرجال. ويمكن استخلاص أبرز هذه الخصوصيات فيما يلي:
2-2- في مفهوم الضحية
طرح تناول موضوع النوع والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان سؤال مفهوم الضحية. وذلك لما ينطوي عليه التمييز بين "الضحايا المباشرين" و"الضحايا غير المباشرين"، وبين "الضحايا الأوليين" و"الضحايا الثانويين"، من إشكال مفاهيمي ومن إيحاء تراتبي. والحال أن ضحايا ماضي الانتهاكات لا ينحصرون في من تعرضوا للاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري ... بل يتمثلون أيضا (وبالأخص في حالات الاختفاء القسري أو الوفاة أثناء الانتهاك) في عائلاتهم، وخصوصا الزوجات والأمهات والأبناء، لما تعرضوا له من انتهاك لحقوقهم الأساسية في الإعالة والرعاية والاستقرار والأمن الإنساني، ومعرفة مصير ذويهم ... كما تعرضوا للتنكيل والمضايقات والتفتيش والتهديد والترحيل، وكذا التضييق على حرية التنقل، واستقبال الزوار، ومن الإقصاء من فرص الشغل والاستفادة من بعض البرامج الاجتماعية. وهو ما يضع في الاعتبار أسر المحتجزين والمختفين كضحايا.
كما أن إعادة الاعتبار للأضرار النفسية والاقتصادية والاجتماعية، وللبعد الإنساني في الانتهاكات من شأنه التمكين من إعادة بناء مفهوم الضحية بما يجعله أكثر استيعابا لخصوصيات معاناة النساء.
لقد شكلت الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان قطيعة حاسمة في حياة الزوجات والأمهات، أفقدتهن أي إحساس بالاستقرار والاطمئنان، وفاقمت آلامهن المترتبة عن فقدان أقاربهن بما تعرضن له من مضايقات وتحرشات وتهديدات واعتقالات وحصار، وخوفهن على مصير أبنائهن. كما أخرجتهن من دائرة الحياة الأسرية لتزج بهن في متاهات البحث والتظلم إلى السلطات أو مواجهة تنكيلها، والتنقل بعيدا عن عالمهن الأليف للمواضبة على زيارة السجون أو محاولات الكشف عن المصير. وأغلبهن لم يكن يبارح دائرة سكناه أو يكاد. ولم يسبق لهن أن تعاملن مع السلطات أو سافرن بمفردهن.
فقدت العائلات معيلها وأحيانا مورد عيشها أيضا (القطيع، المتجر..). فاضطرت الزوجات والأمهات للخروج إلى العمل في شروط شديدة القسوة، لأن أغلبهن أميات ولا يتوفرن على عمل مدر للدخل، وعلى أي تكوين. فاشتغلن في البيوت، وفي الحياكة، أو أعمال بسيطة أخرى. بل اضطرت بعضهن للتسول قصد توفير لقمة العيش لأطفالهن، لأن الكل يخشى من تشغيلهن. كما كان عليهن توفير ما يسمح لهن باقتناء المؤن وتوفير الطعام (القفة) لأزواجهن أو أبنائهن في حالة وجودهم في سجن نظامي.
أصبح العديد من هؤلاء النساء ثكالى أو أرامل في مقتبل العمر. ولم يتمكن من الحداد على ذويهم المفقودين. ليس فقط في حالات مجهولي المصير بل أيضا في حالات التأكد من الوفاة دون معرفة مكان الدفن والحق في الترحم. وهو في حد ذاته انتهاك للحق في معرفة المصير. ومما يضاعف هذه المعاناة المركبة، عجزهن في غالب الأحيان عن ضمان دخل كاف لتغطية متطلبات الحياة وتمدرس الأبناء مما يؤدي إلى انقطاعهم عن الدراسة أو عدم تمدرسهم أصلا، بل تضطرهن الظروف لتشغيل أطفالهن في سن مبكرة. وهو ما يولد لديهن شعورا بالذنب وبالإحباط والعجز. وتخيب آمالهن في ضمان مستقبل مستقر لأبنائهن. بل إنهن لا يستطعن تسجيل الأبناء المزدادين بعد اختفاء الأب. فيبقون بدون هوية ويحرمون من الحق في التمدرس والتوظيف.
3- وقع الانتهاكات على النساء: أضرار مركبة تجعلهن ضحايا عنف مزدوج
سبقت الإشارة، في الفقرات السابقة، إلى بعض الأضرار التي تعرضت لها النساء من جراء الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ويهم هنا تناول خلاصات بعض أشكال الضرر التي يتراكب فيها عنف آليات القمع الدولتي وعنف آليات الرقابة والعقاب في المجتمع الأبوي. مما يجعل وقع الانتهاكات أكثر إيلاما واستدامة وتكسيرا لمسار حياتهن. ويمكن استجلاء ذلك من خلال أصناف الأضرار التالية:
3-1- الأضرار الاقتصادية والاجتماعية
يمكن القول، بناء على ما سبق، أن الانتهاكات تعمق الفقر والإقصاء الاجتماعي وهشاشة أوضاع النساء والأسر، وذلك بسبب فقدهن للمعيل، وتدهور مستوى عيش أسرهن رغم كدحهن، وتقهقر وضعهن الاجتماعي والاعتباري. كما تؤدي إلى انسداد آفاق الارتقاء الاجتماعي، بسبب انعكاسات هذه الأوضاع على أبنائهن، وافتقادهن لفرص التأهيل وتحسين شروط العمل. ومما يفاقم هذه الآثار، تفكك شبكات التضامن الاجتماعي في محيطهن القريب بل والعائلي في كثير من الأحيان، نتيجة المضايقات والتهديدات أو الخوف من نيل نفس العقاب أو بسبب الوصم الاجتماعي. مما يعمق عزلتهن وشعورهن بالخذلان والإحباط.
غالبا ما تتعرض النساء ضحايا الانتهاكات لعقاب المجتمع بواسطة آليات الوصم والإقصاء الاجتماعيين. فلأنهن يجسدن في حكم الثقافة الذكورية شرف الجماعة، فإنهن يتحولن إلى وصمة عار بالنسبة لها في حالة اعتقالهن، وإن لم يتعرضن للاغتصاب فإنهن يعتبرن محط الشبهة لأنهن كن بين أيدي سجانين رجال. الأمر الذي يفضي إلى تهميشهن ومقاطعتهن ووضعهن خارج الجماعة، وخاصة في بعض المناطق. وبنفس المنطق يتعرضن في أحيان كثيرة إلى الطلاق أو تخلي الزوج عنهن وعن أطفالهن. وإذا كن عازبات فإنهن قد يحرمن من الزواج طيلة حياتهن، وبالتالي من الحق في الإنجاب.
إن اعتقال النساء الأمهات، وخاصة في حالات الاختفاء القسري تكون له عواقب وخيمة على الأسرة أكثر مما يكون عليه الأمر في حالة اختفاء الآباء، فالأسرة غالبا ما تتعرض للانحلال ويكون مصير الأطفال التشرد والضياع وأحيانا الإصابة باضطرابات نفسية. كما وقعت بعض وفيات الرضع.
وتتميز الأضرار الخاصة بالنساء ضحايا الاختفاء القسري الذي تجاوز بالنسبة لبعضهن 16 سنة، بمعاناتهن من ضياع فرص الزواج أو الإنجاب، وهو ما يبقى متاحا للرجال مهما طالت مدة احتجازهم ومهما تقدموا في السن. مما يؤدي إلى حرمانهن من حقوق أساسية تطبع الأضرار المترتبة عن الانتهاك بالديمومة، وتعمقها القيم والتصورات السائدة في المجتمع.
كثيرا ما تتعرض بعض النساء للطلاق بعد إطلاق سراح أزواجهن أو اتخاذ زوجة ثانية، والتنكر لهن ولأبنائهن، رغم طول انتظارهن، ومكابدتهن من عنف الدولة وتنكر المجتمع، وكدهن لرعاية أطفالهن وأزواجهن المعتقلين بعدما يحالون على سجن نظامي، وأحيانا بعد نضالهن من أجل الكشف عن مصيرهم وتحسين أوضاعهم وإطلاق سراحهم. كما تشتكي بعض النساء من نفس الأوضاع حتى بعد توصل أزواجهن بالتعويضات، فيتركن في الفقر المدقع هن وأبناؤهن.
3-2- الأضرار النفسية والجسدية
مثل الانتهاك لحظة تحول مباغت وعميق في حياة النساء، خلصت الدراسة المنجزة حول النوع والعنف السياسي، إلى اعتباره قلب حياتهن "رأسا على عقب". إنها لم تكن مجرد صدمة بل رجة هزت كيانهن وغيرت مسارهن وكسرت أحلامهن، وطبعت نفسيتهن ووجودهن مدى الحياة، كما كسرت روابطهن مع محيطهن القريب، وألقت على عاتقهن أعباء وتحديات لم يكن في الغالب الأعم مهيآت أو متوقعات لها. مما يترتب عنه القلق وافتقاد الإحساس بالطمأنينة والثقة وضياع المعالم المألوفة في حياتهن، ويتولد عنه شعور بالضياع والعزلة والعجز. أدت الانتهاكات، مضاعفة بنظام العقاب الاجتماعي، إلى تحول نظرة المرأة إلى ذاتها من ضحية إلى مذنبة. فبعض الانتهاكات كالاستغلال الجنسي بالإضافة إلى الوصم الاجتماعي الذي يفترض ذلك في كل الأحوال، يخلق لدى النساء إحساسا بالرذيلة والعار. وخاصة عندما يتعرضن للإقصاء والنبذ والطلاق. وهو ما يتسبب في مضاعفات نفسية عميقة ومزمنة، كنقص اعتبار الذات والثقة فيها، وعقدة الذنب، والانطواء. كما تفرض هذه الانتهاكات على النساء لزوم الصمت وتحاشي البوح بمعاناتهن حتى للأقربين خوفا من العقاب الاجتماعي، ومن موقف الأسرة ذاتها، ونظرا لتمثلهن لذواتهن كمذنبات. لذلك بقيت بعض أصناف الانتهاكات وخاصة منها الاغتصاب والتحرش الجنسي بمثابة طابوهات يصعب تكسيرها ويتعذر بالتالي حصر مداها لأنها مازالت تدخل ضمن المسكوت عنه.
إن فقدان الجنين أو الطفل من الأحداث الأليمة في حياة المرأة. لكن حدوثها بسبب ظروف الاحتجاز أو التعذيب الجسدي أو النفسي يكون أشد وطأة وأكثر إيلاما. لأن الإجهاض أو الوفاة لا يتم تمثلهما في هذه الحالة كقدر إلهي وإنما كجرم اقترف في حقهن. لذلك فهي جراح لا تندمل. ولازالت النساء يجهشن بالبكاء عند الحكي عنها. بل إن سيدة من ضواحي خنيفرة وضعت في المعتقل ومات رضيعها بعد ستة أشهر سنة 1973، كانت وهي تروي ذلك تشد بطنها بعنف شديد وتصرخ " لقد مزقوا أحشائي، لقد أخذوا أحشائي، ليتني مت" وتبكي بحرقة وكأنها فقدته للتو.
يحدث الفصل القسري عن الأطفال عند اعتقال الأم معاناة لا تقل عنفا، وخاصة عندما يتركون بمفردهم، دون أية حماية. فالقلق والتوجس مما يحذق بهم من مخاطر، والخوف على مصيرهم دون طعام أو رعاية، تكون في ذروتها. تلتقي النساء في التعبير عنها "كدت أجن" "فقدت عقلي" ... وتزداد حدتها عندما يتعلق الأمر بالرضع وصغار السن. ففي شهادة امرأة من إملشيل، اعتقلت ونزعت طفلتها من على ظهرها وهي لا يتعدى عمرها السنتين "أقسم أنها أقسى تجربة عشتها على الإطلاق. كان قلبي يرتجف (تجهش بالبكاء). كدت أجن لأنها لم تكف عن الصراخ "ماما، ماما، ماما". بدأوا بضربي وبقي أبنائي وحدهم بالمنزل. لم يبق معهم أحد وقد كانوا صغار السن جدا. لم يسأل أحد عنهم. " نفس مشاعر الهلع وعدم الاطمئنان والألم، تنتاب النساء المرافقات بأطفالهن. يحكين عن إحساس بالتمزق وهن يرين أطفالهن يتضورون جوعا أو يرتعشون من البرد والخوف، أو يصابون بمرض مع استحالة توفير العلاج لهم، أو تعذيبهن أمامهم.
تتعرض النساء لمضاعفات صحية، منها ما هو مشترك بين الجنسين، كالروماتيزم وأمراض الجهاز الهضمي والقلب والشرايين، والاختلالات العقلية. ومنها ما يخصهن كنساء، مثل إصابتهن بتعفنات والتهابات في جهازهن التناسلي بسبب غياب الحد الأدنى للنظافة، وخاصة أثناء العادة الشهرية.
ثالثا: جبر الأضرار وإنصاف الضحايا
يتمثل المفهوم العام لجبر الأضرار في مجموع التدابير والإجراءات الرامية إلى إصلاح ما لحق بضحايا انتهاكات حقوق الإنسان من أضرار. وعادة ما تتخذ هذه التدابير والإجراءات أشكالا متعددة ومتنوعة، سواء الشكل الكلاسيكي منها والمتعلق بالتعويض المالي أو أشكال الجبر الأخرى المتمثلة في إعادة التأهيل أو الإدماج أو استرداد الكرامة أو الحقوق المصادرة واسترجاع ما ضاع أو فات لضحايا الانتهاكات.
وانطلاقا من مقاربتها الشمولية لجبر الأضرار، عملت الهيئة على ربط ذلك بمهامها الأخرى في مجالات الكشف عن الحقيقة، وإقرار العدالة والنهوض بمقومات المصالحة. ولذلك حرصت على أن يتخذ جبر الأضرار أبعادا رمزية ومادية متعددة، تهم أفراد أو جماعات أو مناطق. كما جعلت منه أحد المداخل الرئيسية لإقرار الدولة بمسؤوليتها فيما جرى.
ويعتبر ذلك أيضا مدخلا أساسيا للإصلاح المتجه نحو وضع ضمانات عدم تكرار ما جرى وإرساء مقومات بناء المستقبل. ولذلك لا يمكن الاقتصار، في مسار استعادة الثقة، على مجرد التمكين من تعويضات مادية أو خدمات اجتماعية، بل ينبغي العمل على ضمان تمتع الضحايا، كمواطنين، بكامل حقوقهم، بما فيها حق المشاركة في مسلسل الإصلاحات لتعزيز بناء دولة القانون والمؤسسات.
1- الأسس المرجعية
أولت الهيئة أهمية قصوى للمرجعية الدولية في موضوع جبر الأضرار، خلال اجتماعاتها الأولى التي خصصت للموضوع، سواء على مستوى الهيئة ككل أو على مستوى فريق العمل المكلف بجبر الأضرار. وعملت، منذ البداية، على استحضار التطورات التي يعرفها القانون الدولي، على الصعيد النظري أو في الممارسة، فيما يخص موضوع جبر الأضرار. ومن خلال الإطلاع على مجموعة من الوثائق والمراجع ذات الصلة، تمكنت الهيئة من الوقوف عند الخلاصات الرئيسية التالية:
2- الإطلاع على تجارب لجان الحقيقة عبر العالم
كما أولت الهيئة أهمية قصوى لتجارب لجان الحقيقة السابقة، وكذا التي كانت قائمة أثناء فترة ولايتها. ولهذا الغرض خصت الهيئة موضوع جبر الأضرار في باقي التجارب العالمية بدراسات واستشارات معمقة، بتعاون مع خبراء المركز الدولي للعدالة الانتقالية. وقد مكن ذلك الهيئة من الوقوف على حقيقة مفادها عدم وجود نموذج واحد يمكن إتباعه في المجال. وبفضل ذلك تمكنت الهيئة أيضا من:
3-تدوين مقاربة هيئة التحكيم السابقة وتقييم تجربتها
انطلاقا من أحد الاختصاصات الموكولة للهيئة، بمقتضى نظامها الأساسي، والقاضي بالقيام بتقييم شامل لمسلسل تسوية ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، الذي من بين أوجهه الإطلاع على تجربة هيئة التحكيم السابقة، انكبت الهيئة على:
4- بلورة سياسة وبرامج جبر الأضرار
خصصت الهيئة جزءا هاما من اجتماعاتها وأنشطتها لإعداد مقاربتها وسياستها في موضوع جبر الأضرار. وحرصا منها على إشراك الرأي العام الوطني في الموضوع، قامت بمراعاة آراء المنظمات الحقوقية الوطنية، سواء العاملة في المجال على المستوى الوطني أو في دول المهجر، وذلك من خلال ما تم عقده من لقاءات مباشرة مع البعض منها، أو مما تم استخلاصه بعد دراسة المذكرات والمقترحات المعروضة على الهيئة.
بالإضافة إلى ذلك، قامت الهيئة بتصنيف وتحليل الملفات المعروضة عليها والمعتبرة داخل الاختصاص. مما مكنها من استخلاص المعطيات والبيانات التي تضمنتها تلك الملفات حول الانتهاكات المصرح بها والأضرار المترتبة عنها واللاحقة بالضحايا أو ذوي حقوقهم. وانطلاقا مما راكمته الهيئة من دراسات وأبحاث وتقييمات في الموضوع على النحو المذكور أعلاه، عملت على بلورة فلسفة ومقاربة وبرامج محددة في مجال جبر الأضرار.
فالبنسبة للتعويض المالي، اعتبرته الهيئة حقا من الحقوق الأساسية لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فحظي باجتهاد خاص من طرفها، حيث اعتمدت مبادئ ومعايير ووحدات حسابية دقيقة تراعي المساواة والتضامن بين الضحايا، وتروم أساسا التعويض عن الانتهاكات المرتكبة. كما أولت الهيئة نفس الأهمية لباقي الأشكال الأخرى لجبر الأضرار طبقا لمقاربة شمولية. وتبعا لذلك اعتمدت مكونات أخرى في برامجها لجبر الأضرار، بالنظر لكونها تختص أيضا، طبقا لمقتضيات نظامها الأساسي، في جبر باقي الأضرار الفردية المتمثلة في: التأهيل الصحي والنفسي والإدماج الاجتماعي وتسوية الأوضاع الوظيفية الإدارية والمالية وتسوية الأوضاع القانونية والنظر في قضايا نزع الممتلكات.
وبنفس قدر الأهمية، اعتبرت الهيئة رد الاعتبار عن طريق الكشف عن الحقيقة ومحو آثار الانتهاكات وحفظ الذاكرة مكونا رئيسيا في مقاربتها لجبر الأضرار.
ومن بين المكونات الجديدة المعتمدة من قبل الهيئة، مقارنة مع باقي تجارب لجان الحقيقة:
5- تجهيز الملفات
قامت الهيئة أولا بعملية للتصنيف والتحليل القبلي لكافة الطلبات الواردة عليها، البالغ عددها 20.046 طلبا. وبعد التجهيز النهائي، تم ضبط عدد الطلبات المستوفية لشروط المقبولية، والتي وصل عددها 16861 طلبا، وهذا راجع لكون عدد كبير من الطلبات يتعلق بنفس الحالات أو الأشخاص. وتبين من خلال ذلك أن معظم هذه الطلبات مجرد رسائل تفتقر للمعلومات المتعلقة بهوية الأشخاص المعنيين والبيانات والوثائق ذات الصلة بالادعاءات الواردة بها. ولذلك، وبعد أن عملت الهيئة على فتح ملفات لجميع الطلبات المعروضة عليها، باشرت استكمال المعلومات والبيانات المتصلة بها، وذلك من خلال:
6- البت في الملفات من زاوية جبر الأضرار
لقد مكنت عملية التجهيز على النحو المذكور أعلاه من تحديد وحصر الملفات التي تتعلق بمواضيع لا ينعقد معها الاختصاص، طبقا لمقتضيات النظام الأساسي للهيئة؛ وكذا تحديد تلك التي ينعقد معها الاختصاص مع تحديد الأشخاص الذين يستحقون التعويض، طبقا للمعايير والمقاييس وعناصر التقدير المعتمدة من قبل الهيئة. كما مكنت، من جهة أخرى، من تحديد الملفات التي تحتاج إلى وسائل إثبات لتأكيد أو نفي الادعاءات الواردة بها بخصوص تعرض الأشخاص المعنيين لانتهاكات لحقوق الإنسان.
وانطلاقا من ذلك قامت الهيئة بالبت في الملفات من زاوية التعويض المالي وباقي مكونات جبر الأضرار.
6-1-التعويض المالي
وبناء عليه، تمكنت الهيئة من إصدار مقررات بتحديد التعويض المستحق في كل الحالات التي ثبت لديها تعرض أصحابها لانتهاكات تدخل ضمن اختصاصها.
6-2-باقي مكونات جبر الضرر على المستوى الفردي والجماعي
أ- باقي مكونات جبر الضرر على النطاق الفردي
فيما يتعلق بتسوية الأوضاع القانونية قامت الهيئة بـ:
ب- تسوية الأوضاع الوظيفية: الإدارية والمالية
ج- الإدماج الاجتماعي
o حالات نزع ممتلكات من طرف الدولة على إثر الانتهاك الذي تعرض له الضحية،
o حالات اعتداء مادي مقصود على عقارات، في الفترة التي كان فيها مصير الشخص مجهولا،
o حالات نزع الملكية لفائدة المنفعة العامة، حيث يتعين دراسة إمكانية إيجاد تسوية مع الإدارة المعنية.
o إعداد مذكرات بشأن، الاقتراحات المتوصل بها.
د- التأهيل الصحي
اعتبرت هيئة الإنصاف والمصالحة الرعاية الصحية لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، من أولويات عملها، وعملت على إدراجها في إطار مقاربة شاملة لجبر الأضرار وللمشاكل الصحية التي يعاني منها الضحايا أو ذوي حقوقهم، بغرض تحديدها، والبحث عن السبل الكفيلة بحلها.
ومن أجل تشخيص أوضاع الضحايا المشتكين من أمراض عضوية أو نفسية، باشرت الهيئة، من خلال تحليل المعلومات الواردة في الوثائق الطبية التي تضمنتها ملفاتهم، إنجاز دراسة مكنت من إعداد تقرير أولي حول الوضعية الصحية لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان.
تمثل الهدف الرئيسي لهذه الدراسة في تقدير طبيعة وأهمية الأمراض التي يعاني منها ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، واستشراف البدائل والاستراتيجيات لتحمل دائم للعلاجات، سواء بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من أمراض أو عجز أو بالنسبة لمجموع الضحايا وذوي حقوقهم.
نتائج الدراسة
من مجموع 15592 ملف لضحايا أو ذوي حقوقهم تم تحليلها من طرف الهيئة، يتعلق 9992 ملف، أي ما يعادل 64,1%، بضحايا صرحوا بمعاناتهم من مشاكل صحية. وضمن هذا العدد من الضحايا، هناك 2006، أي 20,1 %، ضمنوا ملفاتهم وثائق طبية ذات قيمة جيدة أو متوسطة في إثبات وضعيتهم الصحية و/ أو سبق لهم إجراء فحوص طبية، سواء بالوحدة الطبية التابعة للهيئة، أو في إطار الفحوصات التي نظمتها الهيئة ميدانيا، بشراكة مع وزارة الصحة ( الأقاليم الجنوبية).
للقيام بعملية تحليل المعلومات الواردة في الوثائق الطبية وصياغة التشخيص أو التشخيصات والخلاصة المتعلقة بحالة كل ضحية، كلفت الهيئة مجموعة من الأطباء الممارسين في الطب العام أو الأخصائيين، ذوي الخبرة، والذين وضعتهم وزارة الصحة رهن إشارتها. وقد تم تجميع نتائج تحليل خلاصة الأمراض المشخصة بالنسبة لـ 2006 ضحية، ضمن فصول، وفقا للتصنيف العالمي للأمراض ( النسخة العاشرة)، مما مكن من الوقوف على الجوانب الصحية العامة للأضرار الناتجة عن الانتهاكات، مع تحديد أنواع مختلفة وخاصة من الأمراض المزمنة ترتبط بالسن بالنسبة لفئة من الضحايا، زادت من حدتها آثار الأضرار الجسدية والنفسية المختلفة التي تعرضوا لها.
وبالإضافة إلى تدخلات الهيئة، خلال اشتغالها، لفائدة العديد من الضحايا في الحالات الصحية الاستعجالية وغيرها، توصي الهيئة بـ:
شمل الضحايا الذين أصدرت قرارات إيجابية لفائدتهم بعدما ثبت لديها تعرضهم لانتهاكات، والبالغ عددهم حوالي 9779، بنظام التغطية الصحية على النحو الوارد في التوصية الخاصة بالموضوع؛
التحمل الطبي الفوري لفائدة 50 ضحية يعانون من مخلفات صحية خطيرة ومزمنة؛
إنشاء جهاز دائم لتوجيه ومساعدة ضحايا الانتهاكات وسوء المعاملة.
7- جبر الضرر على النطاق الجماعي
نص النظام الأساسي للهيئة على مفهوم جبر الضرر على النطاق العام أو الجماعي، ومن هذا الأساس عززت الهيئة مقاربتها للموضوع انطلاقا من نتائج وخلاصات الزيارات الميدانية للمناطق التي عرفت أحداثا في الماضي وتميزت بوقوع انتهاكات جسيمة، أو تلك التي عرفت وجود مراكز للاختفاء القسري والاحتجاز السري غير القانوني. وبنفس الدرجة من مستخلصات الدراسات والأبحاث التي توفرت للهيئة والتحاليل والمناقشات المجراة بصددها، تمكنت الهيئة من تطوير آلية الوساطة في مجالات تهم التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المناطق المعنية.
كما ساعد في بلورة هذا التوجه الجديد، المقاربة التشاركية التي اعتمدتها الهيئة مع كافة المعنيين أثناء اشتغالها في المناطق المعنية، سواء بمناسبة التحريات التي قامت بها من أجل الكشف عن حقائق الاختفاء القسري أو بمناسبة استكمال المعلومات والبيانات بخصوص مجموعة من الملفات المقدمة إلى الهيئة، أو لتدبير القضايا المرتبطة بالمدافن، أو من خلال تنظيم جلسات استماع عمومية بها.
كما عملت الهيئة أيضا على إشراك فعاليات المجتمع المدني الحقوقية، والجمعيات العاملة في مجال التنمية المحلية وكذا وكالات ومؤسسات التنمية المتدخلة في تلك المناطق.
وانطلاقا من ذلك تمكنت الهيئة، بتعاون وشراكة مع الأطراف المذكورة، من الوقوف على برامج التنمية الاقتصادية، مما مكن بعد جبر الضرر الجماعي من أن يأخذ كافة معانيه ودلالاته في مقاربة جبر الأضرار، الشئ الذي ساعد على تقديم اقتراحات لتعزيز مشاريع قائمة، واقتراح مراعاة مجالات أخرى لم تكن واردة في المشاريع المبرمجة، بما قوى مقاربة جبر الضرر الجماعي وما يرتبط بها من آليات الوساطة.
8-حصيلة إجمالية لعمل الهيئة في مجال جبر الأضرار على المستوى الفردي
أ. عدد الملفات المعروضة على الهيئة: 16861
ب. تصنيف الملفات التي اتخذت بشأنها قرارات إيجابية
ج- تصنيف باقي الملفات
رابعا- لمصـالحة
1- مسارات ومقومات المصالحة
انطلق مسلسل تدريجي للمصالحة في بلادنا متنوع الأشكال والمجالات منذ بداية التسعينات، انصب على الاحتكام إلى قواعد المؤسسات الدستورية، وتوج بالتصويت الإيجابي للمعارضة على التعديلات الدستورية لسنة 1996، وتحملها للمسؤولية الحكومية، وحصول توافقات حول جملة من القوانين ذات الصلة بدولة المؤسسات وحقوق الإنسان.
وقد عرفت هذه الدينامية إصلاحات تشريعية هامة، بدءا من المقتضيات المنظمة للحريات العامة، والانتخابات، وإلغاء القوانين العائدة إلى العهد الاستعماري، وصولا إلى الاتفاق النوعي الحاصل بين مختلف التيارات السياسية والمذهبية بمناسبة تعديل مدونة الأحوال الشخصية.
كما شهدت بلادنا في سياق ذلك، تغييرات نوعية على صعيد الضمانات المؤسساتية ذات الصلة بتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها، بدءا من إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وتطويره في نطاق مبادئ باريز، وإحداث المحاكم الإدارية، وإنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وإحداث مؤسسة ديوان المظالم والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري.
وساهم هذا التطور في انتشار الوعي على نطاق واسع بأهمية مشاركة المواطنين في تدبير شؤونهم العامة، الوطنية والمحلية. كما تقوت حريات التعبير والصحافة والانتماء والتجمع.
وتترجم هذه التحولات مصالحة المغاربة مع تاريخهم التي أكدها الخطاب الملكي السامي بمناسبة تنصيب هيئة الإنصاف والمصالحة. وعرفت قضية حقوق الإنسان على خلفية هذه التطورات السياسية والمؤسساتية، تقدما ملحوظا ومتسارعا على مستوى الفكر والثقافة، مما مكن الدينامية الحقوقية من الانفتاح على أصول ومدارس جديدة تهم القانون الدولي لحقوق الإنسان وتجارب العدالة الانتقالية عبر العالم، فيما يخص التصدي لملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ببلادنا.
وبذلك اختارت التجربة المغربية، انسجاما مع مصالحة المغاربة مع ماضيهم، في مجال التسوية السلمية والعادلة والمنصفة لماضي الانتهاكات، العدالة التصالحية بدل العدالة الاتهامية والحقيقة التاريخية بدل الحقيقة القضائية، لأن مجال هذا النوع من العدالة ليس هو ساحة المحاكم، ولكن الفضاء العمومي، الذي يتسع أفقه ليشمل كافة فضاءات الفعل الاجتماعي والثقافي والسياسي.
وتفعيلا لمقتضيات النظام الأساسي للهيئة، وعلى الخصوص الفقرة السابعة من المادة التاسعة منه التي حددت من بين الأهداف الإستراتيجية ، "المساهمة في تنمية وإثراء ثقافة وسلوك الحوار، وإرساء مقومات المصالحة، دعما للتحول الديمقراطي لبلادنا، وبناء دولة الحق والقانون، وإشاعة قيم وثقافة المواطنة وحقوق الإنسان"، واعتبارا لكون المصالحة مسلسل متواصل الحلقات، عملت الهيئة على جعل مهمة توسيع نطاقها موضوعا أفقيا، تم استحضاره في كافة البرامج والأنشطة التي أنجزتها، حيث حرصت منذ انطلاق أشغالها على خلق ظروف النقاش الحر والحوار الجاد حول مقومات المصالحة، عبر تنظيم العديد من الندوات واللقاءات والزيارات الميدانية التي همت معظم أرجاء التراب الوطني، واعتمدت لتحقيق ذلك، منهجية العمل عن قرب والتواصل في بعده الإخباري ومضمونه الاجتماعي بالشراكة مع مختلف الفاعلين، تتوخا التفاهم حول قراءة مشتركة، تساعد على امتلاك مفاتيح فهم ما جرى من انتهاكات واختلالات و خروقات و تسمح ببناء ذاكرة مشتركة، كثيرا ما غيبت في فترات القمع التي شهدها المجتمع.
ويتطلب بناء الذاكرة المشتركة، إطلاق دينامية النقاش والتناظر الحرين والجدل الديمقراطي، إسهاما في إعادة تقوية الهوية المشتركة باعتبارها مقوما من مقومات الأمة. ولذلك يعتبر العمل من أجل كشف الحقيقة وإقرارها وقراءة ما جرى من انتهاكات مساهمة عميقة وبعيدة المدى في إعادة ترتيب عناصر هذه الذاكرة وتجليا من تجليات ترسيخ عناصر المصالحة في معناها الاجتماعي والثقافي بعيدا عن أي فرض قسري لها، أو فرضا لأي شكل من أشكال الصفح أو الصلح الفردي بين الضحايا والمسؤولين المفترضين عن الانتهاكات.
وللارتباط الوثيق للمصالحة بحفظ الذاكرة الجماعية، اجتهدت الهيئة في توسيع دائرة المستفيدين من برامج جبر الأضرار، عبر إدماج المناطق التي تولد لدى ساكنتها شعور بتعرضها للتهميش ولنوع من العقاب الجماعي بحكم أحداث تاريخية معينة ارتبطت بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، أو بسبب تواجد مراكز اعتقال واحتجاز سرية بها. وبذلك أصبح برنامج جبر الضرر الجماعي بداية ترجمة فعلية لروح المواطنة الايجابية والتضامن الاجتماعي ومساهمة في تدعيم المقاربة الحقوقية والديمقراطية التشاركية في برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي انخرطت فيها بلادنا.
وبانسجام مع ذلك، وضعت الهيئة في صلب اهتماماتها تمكين الأشخاص المتضررين من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من مداخل التأهيل وإعادة الإدماج استرجاعا للكرامة، بارتباط مع جبر الضرر الجماعي لتمكين المجتمع على الصعيدين المحلي والوطني من الانخراط الايجابي في عملية البناء الديمقراطي الجارية استرجاعا للثقة في دولة المؤسسات وحكم القانون وتأمينا لمساهمته الفعالة من خلال مواطنة ضامنة لترسيخ العدالة الاجتماعية ونجاح مشروع المجتمع الديمقراطي الحداثي. اعتمدت الهيئة مبدأ إقرار الحقيقة حول الانتهاكات بشكل علني وفي إطار من التناظر الحر والمناقشة الرصينة، بصفة جماعية ومفتوحة داخل المجتمع، كاختيار استراتيجي لترجمة مسؤولية الدولة بدل مسؤولية الأفراد.
ومن تجليات المصالحة ترجمة قضية ضمان عدم تكرار ما جرى باعتباره مكونا يهم المستقبل ولذلك اعتبرت الهيئة مواصلة الإصلاح الذي انطلق منذ العقد التسعيني من القرن المنصرم ضمانا لاحترام حقوق الإنسان في التشريع وبواسطة المؤسسات وفي الممارسات تعزيزا لمسار بناء دولة القانون حتى لا تتحول الديمقراطية إلى ميكانيزمات وشكليات فقط.
وبذلك توخت هيئة الإنصاف والمصالحة من مسار الكشف عن الحقيقة وإنصاف الضحايا التخفيف أولا من معاناتهم ورد الاعتبار لهم، بتمكينهم من استرداد كرامتهم والشعور بالمواطنة الكاملة والإسهام في النهوض بفهم المجتمع لأحداث الماضي، وتنمية انشغاله باحترام حقوق الإنسان كأحد المداخل الأساسية لتقوية التضامن الوطني والتماسك الاجتماعي، خلقا للشروط والظروف الحقيقة لتجاوز التوترات وانعدام الثقة واليأس داخل المجتمع وتدبير النزاعات بطريقة عنيفة.
2- المداخل الأساسية للمصالحة
2-1-البوح والاعتراف علنيا بما جرى: جلسات الاستماع العمومية
قامت الهيئة، في إطار دعم مسلسل المصالحة، بتنظيم سبع جلسات استماع عمومية بست جهات من المملكة لعينات من ضحايا الانتهاكات الجسيمة الماضية من أجل استرجاع كرامة الضحايا الذين انتهكت حقوقهم وبرد الاعتبار المعنوي لهم، وحفظ الذاكرة الجماعية، ومقاسمة الآلام والمعاناة والتخفيف من المخلفات النفسية الناتجة جراء ذلك. كما لعبت دورا تربويا وبيداغوجيا تجاه المسئولين والرأي العام والمجتمع والأجيال الصاعدة، مشكلة بذلك لحظة ذات أهمية كبيرة في مسار الإنصاف والمصالحة.
ولأول مرة يسمح للضحايا بإسماع أصواتهم من منبر عمومي رسمي بالإنصات لشهاداتهم، التي اعتبرت رسالة بيداغوجية للتوعية بأشكال تلك الانتهاكات والآلام المترتبة عنها ومن تم التحسيس بضرورة تضافر كل إرادات الدولة والمجتمع للحيلولة دون تكرارها. وبذلك كانت الجلستان الأولى والثانية المنظمتان بالرباط، بتاريخ 21 و 22 دحنبر 2004، بداية تأسيس "حكي وطني" حول المعاناة والآلام الماضية، مشكلتان بذلك بوابتين إضافيتين لمصالحة المغاربة مع ماضيهم ومع ذواتهم. كما ساهمتا في إشعاع التجربة المغربية وتجديد التأكيد على انخراط المغرب في الديمقراطية والحداثة وتشبثه بهما.
كما ارتكزت فكرة تنظيم الجلسات على دورها التربوي والبيداغوجي في خلق استعداد أكبر وقابلية لدى المجتمع والدولة، وترسيخ القناعة لديهما بضرورة التشبث بمبادئ حقوق الإنسان وحمايتها والنهوض بها. وتوخت تكريس واجب العمل على الطي المنصف والعادل لصفحة الانتهاكات الجسيمة ومنع تكراراها، وذلك عن طريق التعريف والإقرار بشكل رسمي وعلني بالحجم الذي اتخذته تلك الانتهاكات في بلادنا، وبالآلام التي خلفتها لدى الضحايا، وأسرهم وأقربائهم ومعارفهم، وبآثارها النفسية والمعنوية والمادية على المستويين المحلي والوطني.
وبالموازاة مع ذلك، عقدت لقاءات مفتوحة للتشاور واستطلاع آراء الفاعلين المحليين فيما يتعلق بالسبل الكفيلة بجبر الضرر الجماعي لمناطقهم وضمان مصالحة المواطنين مع مجالهم وتاريخهم في العديد من المدن والقرى المغربية.
2-2-الحوار الوطني حول مقومات الإصلاح والمصالحة
حرصت الهيئة، منذ انطلاق أشغالها، على خلق ظروف النقاش الحر والحوار الجاد حول مقومات المصالحة عبر تنظيم العديد من الندوات واللقاءات والزيارات الميدانية التي همت معظم أرجاء التراب الوطني.
وفي هذا الإطار قامت الهيئة بتنظيم زيارات ميدانية للمناطق التي عرفت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في الماضي، من أجل التواصل بصورة مباشرة مع الضحايا أو ذويهم. وشكلت تلك الزيارات مناسبات قوية إما للاستماع للضحايا أو لمرافقتهم النفسية والاجتماعية، أو لاستكمال بيانات ملفاتهم. كما قامت بفتح مراكز، بالتعاون مع مصالح وزارة الداخلية، لاستقبال وتلقي إفادات الطالبين وذوي حقوقهم، في كل من أزيلال وبني ملال وفي الأقاليم الجنوبية والشمالية للمملكة.
كما عقدت في نفس المناطق جلسات حوار مع الضحايا وذوي الحقوق، في جو من الصراحة والشفافية، مما جعل من هذه الجلسات، لحظات إشفائية وعلاجية لهم من جراحات الماضي مكملة للدور الذي لعبته جلسات الاستماع العمومية.
نظمت أيضا، بمناسبة الزيارات، لقاءات تواصلية مع مكونات الطيف السياسي والنقابي والجمعوي والمنتخبين المحليين في هذه المناطق، تمحورت حول تفسير الأسس العميقة لتجربة المغرب في مجال العدالة الانتقالية ، وأهمية مسار المصالحة مع التاريخ والمجال والذات في تعزيز الانتقال الديموقراطي.
وانطلاقا من قناعتها الثابتة بأن مسألة طي صفحة الماضي والمساهمة في بناء دولة حديثة ديمقراطية ومجتمع تصان فيه الحقوق وتقرر فيه الواجبات، شأنٌ مجتمعي يهم كافة المغاربة من خلال التنظيمات الاجتماعية والسياسية والجمعوية التي انخرطوا فيها، لجأت الهيئة إلى عقد سلسلة من اللقاءات الاستشارية والفكرية في رحاب العديد من الجامعات ومع الفعاليات السياسية والنقابية والجمعوية. كما اعتمدت على الخبرات المعرفية والعلمية الوطنية بغية إنجاز دراسات ومشاريع أوراق خلفية للتقرير الختامي، تتعلق بالظواهر والقضايا كالاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والتربية على حقوق الإنسان والنوع الاجتماعي والانتهاكات، وكذا بغية إغناء توصيات ومقترحات الهيئة.
كما عقدت الهيئة أربع ندوات فكرية وعلمية عمومية بكل من الرباط ومراكش وطنجة والدار البيضاء تناولت على التوالي:
وشاركت في هذه التظاهرات نخبة من نشطاء حقوق الإنسان ومختلف مكونات النسيج الجمعوي و ثلة من المثقفين والباحثين الأكاديميين والممارسين.
كما نظمت خمس جلسات حوارية، في شكل حلقات نقاش عمومي تم بثها عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والموقع الإليكتروني للهيئة. واستهدفت الجلسات الحوارية إشراك الرأي العام في تفكير صريح و مسئول حول السياقات السياسية والفكرية والتاريخية لانتهاكات حقوق الإنسان التي عرفها المغرب منذ بداية الاستقلال، و حول الأسباب التي أدت إلى حدوثها، والانعكاسات التي خلفتها على التطور السياسي في المغرب. كما توخت الدفع نحو سبل بلورة مشاريع وبرامج عملية ترسخ دولة القانون والمؤسسات الحامية للحريات والضامنة لمنع تكرار الانتهاكات.
وشارك في أشغال هذه الجلسات ذوو الخبرة المعرفية والميدانية ومهتمون وفاعلون من المجتمع السياسي والمدني. وانكبت على تحليل السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للانتهاكات، والبحث في الوسائل العملية لتجاوز وسائل العقاب المتنافية مع حقوق الإنسان، كما ثم اقتراح الإصلاحات المؤسساتية والقانونية والتربوية الكفيلة بحماية الحريات وترسيخ دولة القانون.
2-3- الحفظ الايجابي للذاكرة ومعالجة موضوع الأرشيفات
تتطلب المصالحة مع التاريخ، أيضا، إزالة العراقيل التي تحول دون البحث في هذا التاريخ، وتنظيم تراكم التجارب بين الأجيال، وترسيخ التواصل بينها بما يحفظ الذاكرة. مما يستوجب مراجعة شاملة لحالة الأرشيفات العمومية وتهيئ شروط إصلاح عميق لوضعيتها.
ولهذه الغاية نظمت الهيئة لقاءا حول موضوع الأرشيف بالمغرب، شارك فيه مختصون في التاريخ والأرشيف والتوثيق انصب على:
وعملت الهيئة، في إطار برنامج التسوية النهائية لمخلفات الاختفاء القسري، على بلورة مقاربة جديدة لحفظ الذاكرة، تستهدف اقتراح تحويل مراكز الاعتقال أو الاحتجاز السابقة إلى مشاريع منتجة وحافظة للذاكرة. ولهذا الغرض نظمت لقاءات واستشارات مع الفاعلين المحليين من منتخبين وجمعيات وأحزاب وسلطات محلية بالمناطق المعنية بوجود هذه المراكز، إلى جانب الأفراد والمجموعات بالمناطق التي ساد فيها الاعتقاد لدى المواطنين بارتباط تهميشها وعزلتها بماضي الانتهاكات في كل من الأطلس المتوسط والريف والشرق والجنوب الشرقي والحوز.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اتصال | مسير الموقع | خريطة الموقع | انصح بالموقع | روابط | حقوق التأليف | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأربعاء، 4 فبراير 2015
هيئة الانصاف والمصالحة بالمملكة المغربية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق